للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَجْدَرَ بِالْوَفَاءِ بِعُهُودِهِمْ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْخِيَانَةِ فِيهَا سِرًّا وَجَهْرًا، وَفِي هَذَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ لِخُصُومِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فَكَيْفَ بِأَهْلِ ذِمَّتِهِمْ؟ وَإِنَّنَا نَرَى أَعْظَمَ دُوَلِ الْمَدَنِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ تَنْقُضُ عُهُودَهَا جَهْرًا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَلَا سِيَّمَا عُهُودَهَا لِلضُّعَفَاءِ، وَتَتَّخِذُهَا دَخَلًا وَخِدَاعًا مَعَ الْأَقْوِيَاءِ، وَتَنْقُضُهَا بِالتَّأْوِيلِ لَهَا إِذَا رَأَتْ أَنَّ هَذَا فِي مَنْفَعَتِهَا. وَقَدْ قَالَ أَعْظَمُ رِجَالِ سِيَاسَتِهِمُ الْبِرِنْسُ بِسْمَارْك مُعَبِّرًا عَنْ حَالِهِمْ: الْمُعَاهَدَاتُ حُجَّةُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ. (وَقَالَ) فِي الدَّوْلَةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ: إِنَّهَا أَبْرَعُ الدُّوَلِ فِي التَّفَصِّي فِي الْمُعَاهَدَاتِ بِالتَّأْوِيلِ.

ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ أَيْ: فِي النُّصْرَةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُمْ فِي جُمْلَتِهِمْ فَرِيقٌ وَاحِدٌ تُجَاهَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا مِلَلًا كَثِيرَةً يُعَادِي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، بَلِ السُّورَةُ لَمْ يَكُنْ فِي الْحِجَازِ مِنْهُمْ إِلَّا الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَتَوَلَّوْنَ الْمُشْرِكِينَ وَيَنْصُرُونَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ مِنْ عَقْدِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْعُهُودَ مَعَهُمْ، وَمَا كَانَ مِنْ نَقْضِهِمْ لَهَا، ثُمَّ ظَهَرَتْ بَوَادِرُ عَدَاوَةِ نَصَارَى الرُّومِ لَهُ فِي الشَّامِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ وَهِيَ الْمُتِمَّةُ لِمَا هُنَا مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.

وَقِيلَ: إِنِ الْوِلَايَةَ هُنَا وِلَايَةُ الْإِرْثِ كَمَا قِيلَ بِذَلِكَ فِي وِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا قَبْلَهَا، وَجَعَلُوهُ الْأَصْلَ فِي عَدَمِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، وَبِإِرْثِ مِلَلِ الْكُفْرِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا عَلَى نَفْيِ الْمُؤَازَرَةِ وَالْمُنَاصَرَةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِيجَابِ الْمُبَاعَدَةِ وَالْمُصَارَمَةِ وَإِنْ كَانُوا أَقَارِبَ، وَتَرَاهُمْ يُقَلِّدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي هَذَا الْقَوْلِ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ مَفْهُومُ الْآيَةِ أَوْ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ بِأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ عَامَّةٌ فِي الْإِسْلَامِ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ كَتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ. وَلَا بَأْسَ أَنْ نَذْكُرَ هُنَا الْخِلَافَ فِي مَسْأَلَةِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ وَمَا وَرَدَ فِيهَا.

رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ هُشَيْمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ " لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ " وَجَاءَتْ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلُهَا، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ التِّرْمِذِيَّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَآخِرُ مَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، وَثَالِثٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَسَنَدُ أَبِي دَاوُدَ فِيهِ إِلَى عَمْرٍو صَحِيحٌ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ فِي كُلِّ رِوَايَةٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ لِهَذَا اللَّفْظِ عِلَّةٌ وَلَكِنْ يُؤَيِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَهُشَيْمٌ مُدَلِّسٍ كَثِيرُ التَّدْلِيسِ وَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِيهِ قَوْلُ ابْنِ سَعْدٍ: إِذَا قَالَ: أَخْبَرَنَا فَهُوَ ثِقَةٌ وَإِلَّا فَلَا. وَهَاهُنَا قَالَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالسَّمَاعِ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ كَتَبَ عَنْهُ صَحِيفَةً فُقِدَتْ مِنْهُ فَكَانَ يُحَدِّثُ

<<  <  ج: ص:  >  >>