للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَجَاءَ التَّعْبِيرُ عَنْ وَحْيِ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ كُتُبٌ تُؤْثَرُ بِقَوْلِهِ: (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) فَهُوَ يُشِيرُ بِالْإِيتَاءِ إِلَى أَنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ

لَهُ وُجُودٌ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَالنَّظَرُ فِيهِ، فَإِنَّ أَقْوَامَهُمْ يَأْثُرُونَ عَنْهُمْ كُتُبًا.

وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّ الْمُرَادَ الْإِيْمَانُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى - وَمَا أَعْطَاهُ لِأُولَئِكَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ إِجْمَالًا، وَأَنَّهُ كَانَ وَحْيًا مِنَ اللهِ فَلَا نُكَذِّبُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا ادَّعَاهُ وَدَعَا إِلَيْهِ فِي عَصْرِهِ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَمَّا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ ضَيَاعِ بَعْضِهِ وَتَحْرِيفِ بَعْضٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّنَا؛ لِأَنَّ الْإِيْمَانَ التَّفْصِيلِيَّ وَالْعَمَلَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ((أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا (آمَنَّا بِاللهِ) الْآيَةَ))

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مَرْفُوعًا ((آمِنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَلْيَسَعْكُمُ الْقُرْآنُ)) وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا مِنْ نُكْتَةِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فَيُشْكِلُ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) أَيْ مَعْشَرِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَقَوْلِهِ بَعْدُ: (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ لِغَيْرِ دَاوُدَ مِنْهُمْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ، عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِكُتُبٍ أُنْزِلَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تِلْكَ الْكُتُبِ، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ أَنْ يَشْمَلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي أَيَّدَهُمَا بِهَا كَمَا قَالَ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) (١٧: ١٠١) وَقَالَ: (وَآتَيْنَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) (٢: ٨٧) ثُمَّ قَالَ: (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ خَاصًّا بِمُوسَى وَعِيسَى وَاللهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أَيْ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ كِتَابٌ يُؤْثَرُ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، نُؤْمِنُ بِالْجَمِيعِ إِجْمَالًا وَنَأْخُذُ التَّفْصِيلَ عَنْ خَاتَمِهِمُ الَّذِي بَيَّنَ لَنَا أَصْلَ مِلَّتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَزَادَنَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ مَا يُنَاسِبُ هَذَا الزَّمَانَ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَزْمَانِ، وَالْعُمْدَةُ فِي الدِّينِ عَلَى إِسْلَامِ الْقَلْبِ لِلَّهِ - تَعَالَى - (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) : أَيْ مُذْعِنُونَ مُنْقَادُونَ كَمَا يَقْتَضِي الْإِيْمَانُ الصَّحِيحُ وَلَسْتُمْ كَذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ مُتَّبِعُونَ لِأَهْوَائِكُمْ وَتَقَالِيدِكُمْ لَا تَحُولُونَ عَنْهَا.

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّ الْآيَةَ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَتَبْكِيتٌ لَهُمْ. وَقَالَ (الْجَلَالُ) : إِنَّ لَفْظَ (مِثْلِ) زَائِدٌ وَاسْتَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ذَلِكَ وَاسْتَكْبَرَهُ كَعَادَتِهِ، فَإِنَّهُ يُخَطِّئُ كُلَّ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةً

زَائِدَةً أَوْ حَرْفًا زَائِدًا.

وَقَالَ: إِنَّ لِمِثْلِ هُنَا مَعْنًى لَطِيفًا وَنُكْتَةً دَقِيقَةً، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَكِنْ طَرَأَتْ عَلَى إِيْمَانِهِمْ بِاللهِ نَزَغَاتُ الْوَثَنِيَّةِ، وَأَضَاعُوا لُبَابَ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ وَالتَّوْحِيدُ وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَالتَّأْلِيفُ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَمَسَّكُوا بِالْقُشُورِ وَهِيَ رُسُومُ

<<  <  ج: ص:  >  >>