وَمِنَ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ مَعَ الْكُفَّارِ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ عَهْدُهُمْ أَوْ يُنْبَذَ عَلَى سَوَاءٍ - يَقَعُ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ الْكَبِيرِ فِي الْأَرْضِ مَا فِيهِ أَعْظَمُ الْخَطَرِ عَلَيْكُمْ، بِتَخَاذُلِكُمْ وَفَشَلِكُمُ الْمُفْضِي إِلَى ظَفَرِ الْكُفَّارِ بِكُمْ وَاضْطِهَادِكُمْ فِي دِينِكُمْ لِصَدِّكُمْ عَنْهُ كَمَا كَانُوا يَفْتِنُونَ ضُعَفَاءَكُمْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فِي الْمِيرَاثِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ عَنْهُ الْبَغَوِيُّ هُنَا ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِلَّا تَعَاوَنُوا وَتَنَاصَرُوا، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: جَعَلَ اللهُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ أَهْلَ وِلَايَةٍ فِي الدِّينِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَجَعَلَ الْكَافِرِينَ بَعْضَهَمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا تَفْعَلُوهُ وَهُوَ أَنْ يَتَوَلَّى الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ دُونَ الْمُؤْمِنِ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ فَالْفِتْنَةُ فِي الْأَرْضِ: قُوَّةُ الْكُفْرِ، وَالْفَسَادُ الْكَبِيرُ: ضَعْفُ الْإِسْلَامِ اهـ.
وَأَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي الْأَرْضِ مَا ذَكَرْنَا مِنِ اضْطِهَادِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَصَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ مِنْ لَوَازِمَ قُوَّةِ الْكُفْرِ وَسُلْطَانِ أَهْلِهِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ حُرِّيَّةَ الدِّينِ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ حَتَّى فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ، بِمَا يُلْقِيهِ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْهُمْ مِنَ الْمَطَاعِنِ فِيهِ وَفِي الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَبِمَا يُغْرُونَ بِهِ الْفُقَرَاءَ مِنَ الْعَوَامِّ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْمَالِ وَأَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ، كَذَلِكَ الْفَسَادُ الْكَبِيرُ مِنْ لَوَازِمَ ضَعْفِ الْإِسْلَامِ الَّذِي يُوجِبُ عَلَى أَهْلِهِ تَوَلِّي بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي التَّعَاوُنِ وَالنُّصْرَةِ وَعَدَمِ تَوَلِّي غَيْرِهِمْ مِنْ دُونِهِمْ، وَيُوجِبُ عَلَى حُكُومَتِهِ الْقَوِيَّةِ الْعَدْلَ الْمُطْلَقَ وَالْمُسَاوَاةَ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَالْقَرِيبِ
وَالْبَعِيدِ - كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مِرَارًا - وَالَّذِي يُحَرِّمُ الْخِيَانَةَ وَنَقْضَ الْعُهُودِ حَتَّى مَعَ الْكُفَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا مُفَصَّلًا وَذَكَّرْنَا بِهِ آنِفًا. وَمَنْ وَقَفَ عَلَى تَارِيخِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي سَقَطَتْ وَبَادَتْ وَالَّتِي ضَعُفَتْ بَعْدَ قُوَّةٍ، يَرَى أَنَّ السَّبَبَ الْأَعْظَمَ لِفَسَادِ أَمْرِهَا تَرْكُ تِلْكَ الْوِلَايَةِ أَوِ اسْتِبْدَالُ غَيْرِهَا بِهَا، وَمِنَ الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ أَنَّ مَسْأَلَةَ التَّوَارُثِ لَا تَقْتَضِي هَذِهِ الْفِتْنَةَ الْعَظِيمَةَ، وَلَا هَذَا الْفَسَادَ الْكَبِيرَ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةِ: أَيْ: إِنْ لَمْ تُجَانِبُوا الْمُشْرِكِينَ، وَتُوَالُوا الْمُؤْمِنِينَ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ فِي النَّاسِ، وَهُوَ الْتِبَاسُ الْأَمْرِ وَاخْتِلَاطُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْكَافِرِينَ، يَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ فَسَادٌ مُنْتَشِرٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ. اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ اخْتِلَاطَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَقْوِيَاءَ فِي إِيمَانِهِمْ بِالْكَافِرِينَ سَبَبٌ قَوِيٌّ لِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِ حَقِّيَّتِهِ وَفَضَائِلِهِ كَمَا وَقَعَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى فَتْحًا مُبِينًا. وَكَذَلِكَ كَانَ انْتِشَارُ الْمُسْلِمِينَ فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ بِقَصْدِ التِّجَارَةِ سَبَبًا لِإِسْلَامِ أَهْلِهَا كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ كَمَا وَقَعَ فِي جَزَائِرِ الْهِنْدِ الشَّرْقِيَّةِ (جَاوَهْ وَمَا جَاوَرَهَا) وَفِي أَوَاسِطِ إِفْرِيقِيَّةَ. فَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ ضَعِيفٌ بَلْ مَرْدُودٌ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَالِ ضَعْفِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute