للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا آيَةَ السَّيْفِ، وَاعْتَمَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّ آيَةَ السَّيْفِ هِيَ قَوْلُهُ الْآتِي: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (٣٦) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ عَلَى كِلْتَيْهِمَا. وَيَكْثُرُ فِي كَلَامِ الَّذِينَ كَثَّرُوا الْآيَاتِ الْمَنْسُوخَةَ أَنَّ آيَةَ كَذَا وَآيَةَ كَذَا مِنْ آيَاتِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْجَاهِلِينَ وَالْمُسَالَمَةِ وَحَسُنِ الْمُعَامَلَةِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَيْسَ مِنَ النَّسْخِ الْأُصُولِيِّ فِي شَيْءٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي أَقْسَامِ النَّسْخِ مِنَ الْإِتْقَانِ مَا نَصُّهُ: (الثَّالِثُ) مَا أُمِرَ بِهِ لِسَبَبٍ ثُمَّ يَزُولُ السَّبَبُ، كَالْأَمْرِ حِينَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّفْحِ. ثُمَّ نُسِخَ بِإِيجَابِ الْقِتَالِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ نَسْخًا، بَلْ هُوَ مِنْ قِسْمِ الْمُنَسَّأِ كَمَا قَالَ تَعَالَى (أَوْ نُنْسِهَا) فَالْمُنَسَّأُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ، وَفِي حَالِ الضَّعْفِ يَكُونُ الْحُكْمُ وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَبِهَذَا يَضْعُفُ مَا لَهِجَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ فِي ذَلِكَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مِنَ الْمُنَسَّأِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَرَدَ يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتٍ مَا لِعِلَّةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ الْحُكْمَ، بَلْ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، إِنَّمَا النَّسْخُ الْإِزَالَةُ لِلْحُكْمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ امْتِثَالُهُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: ذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْخِطَابِ مُشْعِرًا بِالتَّوْقِيتِ وَالْغَايَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ (٢: ١٠٩) مُحْكَمٌ غَيْرُ

مَنْسُوخٍ؛ لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ بِأَجَلٍّ، وَالْمُؤَجَّلُ بِأَجَلٍ لَا نَسْخَ فِيهِ اهـ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَعَزَاهُ الْآلُوسِيُّ إِلَى الْجُمْهُورِ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ بِعُمُومِهَا عَلَى جَوَازِ قِتَالِ التُّرْكِ وَالْحَبَشَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاقْتُلُوا الْكُفَّارَ مُطْلَقًا. يَعْنُونَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ أَوْ مُخَصِّصَةٌ لِحَدِيثِ: اتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَسْلُبُ أُمَّتِي مُلْكَهُمْ وَمَا خَوَّلَهُمُ اللهُ بَنُو قَنْطُورَاءَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَفِي فَتْحِ الْبَارِّي أَنَّهُ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ.

وَقِتَالُ الْمُسْلِمِينَ لِلتُّرْكِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا اتْرُكُوا الْحَبَشَةَ مَا تَرَكُوكُمْ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَخْرِجُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ إِلَّا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذَا يَكُونُ قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، إِذْ يَبْطُلُ أَمْنُ الْحَرَمِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ رَجُلٍ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: دَعَوُا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (٣٦) وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وَالْحَدِيثَ مُقَيَّدٌ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيُجْعَلُ الْحَدِيثُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْآيَةِ، كَمَا خَصَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُمْ كَفَرَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ أَخَذَ مِنْهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>