للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْأَسْبَابِ، وَطَلَبَ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَمَانًا، أُعْطِيَ أَمَانًا مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا فِي الْإِسْلَامِ، وَحَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَأْمَنِهِ وَوَطَنِهِ. لَكِنْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَنَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الْإِقَامَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَنَقَصَ عَنْ سَنَةٍ قَوْلَانِ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى اهـ.

وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَصْحَابِهِ الشَّافِعِيَّةِ. وَفِي التَّرْغِيبِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ: وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْأَمَانِ عَدَمُ الضَّرَرِ عَلَيْنَا، وَأَلَّا تَزِيدَ مُدَّتُهُ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ، وَفِي جَوَازِ إِقَامَتِهِمْ بِدَارِنَا هَذِهِ الْمُدَّةَ بِلَا جِزْيَةٍ وَجْهَانِ. انْتَهَى مِنْ كِتَابِ الْفُرُوعِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا مِنَ الشَّارِعِ تُنَاطُ بِالْمَصْلَحَةِ، وَتُفَوَّضُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَقُوَّادِ الْجُيُوشِ.

قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرُ بِإِجَارَةِ الْمُسْتَجِيرِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ أَوْ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ جَاهِلُونَ لَا يَدْرُونَ مَا الْكِتَابُ، وَمَا الْإِيمَانُ، فَأَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِجَهْلٍ وَعَصَبِيَّةٍ، وَكَانُوا مُغْتَرِّينَ بِقُوَّتِهِمْ، مُصِرِّينَ عَلَى جَفْوَتِهِمْ، فَإِذَا كَانَ شُعُورُهُمْ بِضَعْفِهِمْ لَصِدْقِ

وَعْدِ اللهِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ قَدْ أَعَدَّهُمْ لِلْعِلْمِ بِمَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَوْ لِغَرَضٍ آخَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِمْكَانُ تَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ وَإِسْمَاعِهِمْ كَلَامَهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَهُوَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالشِّفَاءُ لِمَا فِي الصُّدُورِ لِمَنْ سَمِعَهُ بِاسْتِقْلَالِ فِكْرٍ - أُجِيبُوا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى لِتَعْلِيمِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ، وَإِنَّمَا بُعِثْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَرَءُوفًا رَحِيمًا.

وَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ بِأَصْلِ الدِّينِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلْمًا يَقِينِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا احْتِمَالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْطِقِيًّا. وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ الرَّاجِحِ كَالْفُرُوعِ الْعِلْمِيَّةِ، وَلَا بِالتَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَالْآيَاتُ الْمُفَرِّقَةُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ مُتَعَدِّدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (٥٣: ٢٨) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (١٠: ٣٦) وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٤٥: ٢٤) .

وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ كَافٍ فِي الدِّينِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ كَافِيًا لَوَجَبَ أَلَّا يُمْهَلَ هَذَا الْكَافِرُ، بَلْ يُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ نَقْتُلُكَ. فَلَمَّا لَمْ يُقَلْ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ أَمْهَلْنَا وَأَزَلْنَا الْخَوْفَ عَنْهُ، وَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُبَلِّغَهُ مَأْمَنَهُ، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الدِّينِ غَيْرُ كَافٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ، فَأَمْهَلْنَاهُ وَأَخَّرْنَاهُ، لِيَحْصُلَ لَهُ مُهْلَةُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مِقْدَارِ هَذِهِ الْمُهْلَةِ كَمْ يَكُونُ، وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ إِلَّا بِالْعُرْفِ، فَمَتَى ظَهَرَ عَلَى الْمُشْرِكِ عَلَامَاتُ كَوْنِهِ طَالِبًا لِلْحَقِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>