النَّاسِ.
وَمِنْ سُنَنِهِ تَفَاوَتُ الْبِشْرِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَقَابِلِيَّةُ التَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ كَدَرَجَاتِ تَأْثِيرِ الشِّرْكِ فِي أَنْفُسِ الْأَفْرَادِ مِنْ قُوَّةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْإِصْرَارُ إِلَى الْمَمَاتِ، وَضَعْفٍ قَابِلٍ لِلزَّوَالِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، بِمَا يَطْرَأُ عَلَى أَصْحَابِهَا مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْمُؤَثِّرَاتِ، وَلَيْسَتْ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى فِي التَّوْبَةِ عَلَى مَنْ يَتُوبُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ إِكْرَاهًا لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ كَمَا تَزْعُمُهُ الْجَبْرِيَّةُ، وَلَا مِنَ الْخُلُقِ الْأَنِفِ الَّذِي تَزْعُمُهُ الْقَدَرِيَّةُ، بَلْ هُوَ بِحَسَبِ الْمَقَادِيرِ الْإِلَهِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِآيَاتِ التَّنْزِيلِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ، فَلَوْ كَانَ بِالْجَبْرِ وَالْإِكْرَاهِ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ اخْتِيَارٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ،
وَلَوْ كَانَ بِالْخُلُقِ الْمُسْتَأْنَفِ لَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمُحَابَاةِ فِي التَّفْصِيلِ الْإِلَهِيِّ الْمَحْضِ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ يُنَافِي الْعَدْلَ وَالْحِكْمَةَ. وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يُحَابِيَ أَعْدَى أَعْدَاءِ رَسُولِهِ وَأَبْغَضَهُمْ إِلَيْهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَوَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ أَخِيهِ فِي الرَّضَاعِ وَعَمِّهِ وَأَبِي سُفْيَانَ الْمُحَرِّضِ الْأَكْبَرِ لِلْعَرَبِ عَلَى قِتَالِهِ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَيَخْلُقُ لَهُمُ الْإِيمَانَ وَيُجْبِرُهُمْ عَلَيْهِ، مِنْ حَيْثُ يَحْرِمُ مِنْهُ أَبَا طَالِبٍ عَمَّهُ وَنَاصِرَهُ بِعَصَبَةِ النَّسَبِ وَهُوَ أَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُجْبِرَةُ وَمِنْهُمْ جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْجَبْرِ وَنَفْيِ الِاخْتِيَارِ فِيمَا هُوَ أَظْهَرُ مِمَّا ذُكِرَ، وَهُوَ إِخْبَارُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُ الْمُشْرِكِينَ فَيَقْتُلُ بَعْضَهُمْ، وَيَجْرَحُ آخَرِينَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا يَدُلُّ بِزَعْمِهِمْ عَلَى أَنَّ أَيْدِيَهُمْ كَسُيُوفِهِمْ وَرِمَاحِهِمْ لَيْسَتْ إِلَّا آلَاتٌ لَا تَأْثِيرَ لَهَا أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّ الْكَسْبَ الَّذِي هُوَ مُنَاطُ التَّكْلِيفِ اسْمٌ لَا مُسَمَّى لَهُ، وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمْ أَقْوَى فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى (٨: ١٧) فَإِنَّ فِي هَذَا إِثْبَاتًا لِإِسْنَادِ الرَّمْي إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ جِهَةِ مُبَاشَرَتِهِ لِأَخْذِ التُّرَابِ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِلْقَائِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ فِي جِهَتِهِمْ، مَعَ نَفْيِهِ عَنْهُ ثُمَّ إِسْنَادِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ أَثَرِهِ وَهُوَ وُصُولُ التُّرَابِ إِلَى وُجُوهِهِمْ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ أُسْنِدَ التَّعْذِيبُ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ يَفْعَلُهُ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّا آنِفًا أَنَّ لِهَذَا التَّعْذِيبِ مَعْنًى وَرَاءَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ الَّذِي هُوَ كَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَمَلُهُمْ هُوَ فِعْلُ اللهِ وَحْدَهُ، عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فَوْقَ الْمَذْهَبَيْنِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّعْذِيبِ الْقَتْلُ وَالْجَرْحُ كَمَا تَعْلَمُ مِنْ قَوْلِ كَبِيرِي نُظَّارِهِمْ وَمَا نُقَفِّي بِهِ عَلَيْهِ تَأْيِيدًا لِلْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ.
أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ إِمَامُ الْمُعْتَزِلَةِ عَنِ الْآيَةِ مُحْتَجًّا عَلَى الْمُجْبِرَةِ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيْدِي الْكَافِرِينَ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُكَذِّبُ أَنْبِيَاءَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْكُفَّارِ، وَيَلْعَنُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُجْبِرَةِ عُلِمَ أَنَّهُ
تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا نَسَبَ مَا ذَكَرَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَصَلَ بِأَمْرِهِ وَأَلْطَافِهِ كَمَا يُضِيفُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ إِلَيْهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute