فِيهِ، وَالْجُمُودِ عَلَى ظَوَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَفَقُّهٍ فِيهِ وَلَا نُفُوذٍ إِلَى أَسْرَارِهِ وَحِكَمِهِ الَّتِي لَمْ تُشْرَعِ الْأَحْكَامُ إِلَّا لِأَجْلِهَا، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) السَّفَهُ وَالسَّفَاهَةُ: الِاضْطِرَابُ فِي الرَّأْيِ وَالْفِكْرِ أَوِ الْأَخْلَاقِ. يُقَالُ: سَفَّهَ حِلْمَهُ وَرَأْيَهُ وَنَفْسَهُ، وَمِنْهُ زِمَامٌ سَفِيهٌ ; أَيْ: مُضْطَرِبٌ لِمَرَحِ النَّاقَةِ وَمُنَازَعَتِهَا إِيَّاهُ. وَاضْطِرَابُ الْحِلْمِ - الْعَقْلِ - وَالرَّأْيِ: جَهْلٌ وَطَيْشٌ، وَاضْطِرَابُ الْأَخْلَاقِ: فَسَادٌ فِيهَا لِعَدَمِ رُسُوخِ مَلَكَةِ الْفَضِيلَةِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ السُّفَهَاءِ وَأَحْسَنَ مَا شَاءَ: هُمُ الَّذِينَ خَفَّتْ أَحْلَامُهُمْ وَاسْتَمْهَنُوهَا بِالتَّقْلِيدِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ، يُرِيدُ الْمُنْكِرِينَ لِتَغْيِيرِ الْقِبْلَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ. وَفَائِدَةُ تَقْدِيمِ الْإِخْبَارِ تَوْطِينُ النَّفْسِ وَإِعْدَادُ الْجَوَابِ اهـ.
وَوَلَّاهُ عَنِ الشَّيْءِ: صَرَفَهُ عَنْهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَالْمَعْنَى: سَيَقُولُ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ السُّخَفَاءُ: أَيُّ شَيْءٍ جَرَى لِهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَحَوَّلَهُمْ وَصَرَفَهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَهِيَ قِبْلَةُ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ وَهَاكَ تَفْصِيلَ الْجَوَابِ: لَيْسَتْ صَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِأَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الصُّخُورِ فِي مَادَّتِهَا وَجَوْهَرِهَا، وَلَيْسَ لَهَا مَنَافِعُ وَخَوَاصُّ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا، وَلَا هَيْكَلُ سُلَيْمَانَ فِي نَفْسِهِ - مِنْ حَيْثُ هُوَ حَجَرٌ وَطِينٌ - أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْكَعْبَةِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) (٢: ١٢٧) وَإِنَّمَا يَجْعَلُ اللهُ لِلنَّاسِ قِبْلَةً ; لِتَكُونَ جَامِعَةً لَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٢: ١١٥) وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الْكَعْبَةِ وَالْحَجِّ، وَلَكِنَّ سُفَهَاءَ الْأَحْلَامِ مِنْ أَهَلِ الْجُمُودِ وَالْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْقِبْلَةَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ مِنْ حَيْثُ هِيَ الصَّخْرَةُ الْمُعَيَّنَةُ أَوِ الْبِنَاءُ الْمُعَيَّنُ ; وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي لَقَّنَهَا اللهُ لِنَبِيِّهِ فِي الرَّدِّ عَلَى السُّفَهَاءِ الْجَاهِلِينَ
لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أَيْ: إِنَّ الْجِهَاتِ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى لَا فَضْلَ لِجِهَةٍ مِنْهَا بِذَاتِهَا عَلَى جِهَةٍ، وَإِنَّ لِلَّهِ أَنْ يُخَصِّصَ مِنْهَا مَا شَاءَ فَيَجْعَلُهُ قِبْلَةً لِمَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الَّذِي (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وَهُوَ صِرَاطُ الِاعْتِدَالِ فِي الْأَفْكَارِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، كَمَا يُبَيَّنُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ. فَعُلِمَ أَنَّ نِسْبَةَ الْجِهَاتِ كُلِّهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِالْقُلُوبِ، وَاتِّبَاعِ وَحْيِهِ فِي تَوَجُّهِ الْوُجُوهِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (٢: ٢١٣) إِلَخْ، أَيْ: عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْهِدَايَةِ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. قَالُوا: إِنَّ الْوَسَطَ هُوَ الْعَدْلُ وَالْخِيَارُ، وَذَلِكَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَطْلُوبِ فِي الْأَمْرِ إِفْرَاطٌ، وَالنَّقْصَ عَنْهُ تَفْرِيطٌ وَتَقْصِيرٌ، وَكُلٌّ مِنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ مَيْلٌ عَنِ الْجَادَّةِ الْقَوِيمَةِ فَهُوَ شَرٌّ وَمَذْمُومٌ، فَالْخِيَارُ: هُوَ الْوَسَطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْأَمْرِ ; أَيِ: الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ إِيرَادِ هَذَا: وَلَكِنْ يُقَالُ لِمَ اخْتِيرَ لَفْظُ الْوَسَطِ عَلَى لَفْظِ الْخِيَارِ مَعَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْأَوَّلُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute