قَالَ: إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ لَكُمْ وَصْفُ الْوَسَطِ إِذَا حَافَظْتُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهَدْيِ الرَّسُولِ وَاسْتَقَمْتُمْ عَلَى سُنَّتِهِ، وَأَمَّا إِذَا انْحَرَفْتُمْ عَنْ هَذِهِ الْجَادَّةِ، فَالرَّسُولُ بِنَفْسِهِ وَدِينِهِ وَسِيرَتِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ بِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ أُمَّتِهِ الَّتِي وَصَفَهَا اللهُ فِي كِتَابِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِقَوْلِهِ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٣: ١١٠) إِلَخْ ; بَلْ
تَخْرُجُونَ بِالِابْتِدَاعِ مِنَ الْوَسَطِ وَتَكُونُونَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ - وَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ:
كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ ... بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : يُقَالُ إِنَّ هَذَا خَبَرٌ عَظِيمٌ بِمِنْحَةٍ جَلِيلَةٍ، وَمِنَّةٌ بِنِعْمَةٍ كَبِيرَةٍ، فَلِمَ جِيءَ بِهِ مُعْتَرِضًا فِي أَطْوَاءِ الْكَلَامِ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يَجِئِ ابْتِدَاءً أَوْ فِي سِيَاقِ تَعْدَادِ الْآلَاءِ وَالنِّعَمِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الْفِتْنَةَ بِمَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ سَتَكُونُ عَظِيمَةً، وَأَنْ سَيَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ لِأَنَّهُ غَيَّرَ قِبْلَتَهُ، وَلَوْ كَانَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمَا نَهَاهُ عَنْهُ ثَانِيًا وَصَرَفَهُ عَنْ قِبْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّهُ صَلَّى أَوَّلًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتِمَالَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَدِهَانًا لَهُمْ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ وَطَنِهِ وَتَعْظِيمُهُ، فَعَادَ إِلَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، فَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي دِينِهِ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ - عَلَى كَوْنِهَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَالِ فِي أَفْكَارِ قَائِلِيهَا - تُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْمُطَمْئِنُّ الرَّاسِخُ فِي الْإِيمَانِ يَحْزَنُ لِشُكُوكِ النَّاسِ وَتَشْكِيكِهِمْ فِي الدِّينِ، وَالضَّعِيفُ غَيْرُ الْمُتَمَكِّنِ رُبَّمَا يَضْطَرِبُ وَيَتَزَلْزَلُ ; لِذَلِكَ بَدَأَ اللهُ بِإِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا سَيَكُونُ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ إِثَارَةِ رِيَاحِ الشُّبَهِ وَالتَّشْكِيكِ، وَلَقَّنَهُمُ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا فِيهَا مِنَ الْحِكْمَةِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَنْزِلَتَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ وَهِيَ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَسَطٌ لَا تَغْلُو فِي شَيْءٍ، وَلَا تَقِفُ عِنْدَ الظَّوَاهِرِ، وَأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ; بِاعْتِدَالِهِمْ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَفَهْمِهِمْ لِحَقَائِقِ الدِّينِ وَأَسْرَارِهِ، وَمِنْ أَهَمِّهَا أَنَّ الْقِبْلَةَ الَّتِي يُتَوَجَّهُ إِلَيْهَا لَا شَأْنَ لَهَا فِي ذَاتِهَا، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِيهَا بِاجْتِمَاعِ أَهْلِ الْمِلَّةِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَصِفَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى.
وَلَمَّا كَانَتْ نِسْبَةُ الْجِهَاتِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدَةً - إِذْ لَا تَحْصُرُهُ وَلَا تَحُدُّهُ جِهَةٌ - كَانَ الْتِزَامُ الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْهَا لِغَيْرِ مُجَرَّدِ الِاتِّبَاعِ لِأَمْرِ الرَّسُولِ عَنِ اللهِ تَعَالَى مَيْلًا مَعَ الْهَوَى، أَوْ تَخْصِيصًا بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا لَا يَرْضَاهُ لِنَفَسِهِ الْعَاقِلُ الْمُعْتَدِلُ فِي أَمْرِهِ، نَعَمْ إِنَّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ حِكْمَةِ التَّحَوُّلِ وَالِانْتِقَالِ، لَا سِيَّمَا بَعْدَمَا ثَبَتَ بِالْوَاقِعِ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ لَمْ يَأْمُرْ إِلَّا بِمَا ظَهَرَتْ فَائِدَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ لِلْمُمْتَثِلِينَ لَهُ مِنْ إِصْلَاحِ النُّفُوسِ وَحَمْلِهَا عَلَى الْخَيْرِ وَتَوْجِيهِهَا إِلَى الْبِرِّ، مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ إِعْلَامَ اللهِ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا سَيَكُونُ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَتَلْقِينَهُ إِيَّاهُمُ الْحُجَّةَ، وَإِنْزَالَهُمْ مَنْزِلَةَ الشُّهَدَاءِ وَالْمُحَكَّمِينَ، ثُمَّ تَبْيِينَهُ لَهُمْ حِكْمَةَ التَّحْوِيلِ، كَانَ مُؤَيِّدًا وَمُسَدِّدًا لَهُمْ، وَنُورًا يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي ظُلْمَةِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ الْمُدْلَهِمَّةِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذِهِ هِيَ الْبَلَاغَةُ الَّتِي لَا غَايَةَ وَرَاءَهَا ; إِعْلَامٌ بِمَا سَيَكُونُ مِنَ اضْطِرَابِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute