وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، وَمِنْهَا عُرُوضُ التِّجَارَةِ الَّتِي يُرْجَى رَوَاجُهَا، وَيُخْشَى كَسَادُهَا - كُلُّهَا مِنْ جُودِهِ وَعَطَائِهِ وَتَسْخِيرِهِ - وَحُبُّهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دُونَ حُبِّهِ بَلْ هُوَ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْحُبِّ وَإِنْ فُتِنَ بِهِ أَكْثَرُ الْمَادِّيِّينَ، وَكَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ حُرِمُوا تَهْذِيبَ الدِّينِ، فَصَارَتْ أَمْوَالُهُمْ مِنْ أَسْبَابِ شَقَائِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَبْخَلُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَالْمَسَاكِنُ دُونَ الْأَمْوَالِ ; لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْنِيَ مِنْهَا مِثْلَ مَا يَفْقِدُهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ، وَقَدْ أَغْنَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ عَنْ كُلِّ مَا فَقَدُوا أَوْ خَافُوا أَنْ يَفْقِدُوا بِنَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ، وَعَوْدَةِ حَالِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَبَ وَهْمُ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ. وَإِيهَامُ الْمُنَافِقِينَ لَهُمْ بِأَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ سَبَبُ الْكَسَادِ وَالْخُسْرَانِ، وَصَدَقَ وَعْدُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِخْلَافِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَتَمْكِينِهِمْ فِيهَا، وَجَعْلِهِمْ أَغْنَى أَهْلِهَا مَا دَامُوا مُهْتَدِينَ بِهِ كَمَا وَعَدَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ (٢٤: ٥٥) إِلَخْ وَلَوْ عَادُوا إِلَى تِلْكَ الْهِدَايَةِ، لَعَادَتْ إِلَيْهِمْ تِلْكَ الْخِلَافَةُ.
وَإِنَّ فَوْقَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ حُبِّهِ تَعَالَى لِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ بِالْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ فِي الدُّنْيَا، وَتَسْخِيرِ قُوَاهَا وَمَنَافِعِهَا لِلنَّاسِ، وَحُبِّهِ لِمَا وَعَدَ بِهِ مِمَّا يُشْبِهُهُ، وَلَكِنْ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ نَوْعٌ آخَرُ هُوَ حُبُّ الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ وَالْمَعْرُوفَةِ الْعُلْيَا. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ وَسَبَبَهُ فِي تَفْسِيرِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ (٢: ١٦٥) وَبَيَّنَّا خَطَأَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِ أَنْدَادِهِمْ مَعَهُ فِيهِ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُمْ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ وَشُفَعَاءُ عِنْدَهُ يُقَرِّبُونَ مَنْ تَوَسَّلَ بِهِمْ إِلَيْهِ زُلْفَى. وَكَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدَّ مِنْهُمْ حُبًّا لِلَّهِ ; لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَمِنْ تَوَحُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ - وَمِنْ آثَارِهَا التَّدْبِيرُ وَالنَّفْعُ وَالضُّرُّ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي هُوَ خَالِقُهَا وَمُسَخِّرُهَا وَبِغَيْرِ الْأَسْبَابِ إِنْ شَاءَ وَانْفِرَادُهُ
بِالْأُولُوهِيَّةِ وَهِيَ كَوْنُهُ هُوَ الْمَعْبُودَ الْحَقَّ وَحْدَهُ، فَحُبُّهُمْ إِيَّاهُ مُجْتَمِعٌ ثَابِتٌ كَامِلٌ لَا شَائِبَةَ لِلْإِشْرَاكِ فِيهِ، وَبَيَّنَّا فِي مُقَابَلَةِ هَذَا كَوْنَ حُبِّ الْمُشْرِكِينَ لِلْأَنْدَادِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ نَهْيًا مُقَسَّمًا عَلَى مَعْبُودَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
ثُمَّ إِنَّ حُبَّ الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ لِلَّهِ تَعَالَى لَهُ دَرَجَاتٌ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ مَعَارِفِهِ بِآيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَاتِ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَمِقْدَارِ إِدْرَاكِهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ كَمَا قَالَ: صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (٢٧: ٨٨) وَقَالَ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (٣٢: ٧) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (٣: ٣١) كَمَا بَيَّنَّا فِيهِ مَعْنَى حُبِّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ النُّورِ وَالْهُدَى وَالْفُرْقَانِ. وَقَدْ جَهِلَ عُلَمَاءُ الْأَلْفَاظِ وَالتَّقَالِيدِ كُنْهَ هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute