للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِلْفَاصِلَةِ، وَأَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا الْقَوْلَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ وَيُنْكِرُ مِثْلَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَيَقُولُ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ فِي الْقُرْآنِ مَوْضُوعَةٌ فِي مَوْضِعِهَا اللَّائِقِ بِهَا فَلَيْسَ فِيهِ كَلِمَةٌ تَقَدَّمَتْ وَلَا كَلِمَةٌ تَأَخَّرَتْ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ ; لِأَنَّ الْقَوْلَ بِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ إِثْبَاتٌ لِلضَّرُورَةِ، كَمَا قَالُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ السَّجْعِ وَالشِّعْرِ: إِنَّهُ قَدَّمَ كَذَا وَأَخَّرَ كَذَا لِأَجْلِ السَّجْعِ وَلِأَجْلِ الْقَافِيَةِ. وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَلَا الْتِزَامَ فِيهِ لِلسَّجْعِ، وَهُوَ مِنَ اللهِ الَّذِي لَا تَعْرِضُ لَهُ الضَّرُورَةُ، بَلْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ. وَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا لِتَأَثُّرِهِمْ بِقَوَانِينِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ وَغَلَبَتِهَا عَلَيْهِمْ فِي تَوْجِيهِ الْكَلَامِ، مَعَ الْغَفْلَةِ فِي هَذِهِ النُّقْطَةِ عَنْ مَكَانَةِ الْقُرْآنِ فِي ذَاتِهِ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا لِكُلِّ كَلِمَةٍ فِي مَكَانِهَا مِنَ التَّأْثِيرِ الْخَاصِّ عِنْدَ أَهْلِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ اهـ.

(وَأَقُولُ) إِنَّ الْمَسْأَلَةَ خِلَافِيَّةٌ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْفَوَاصِلَ مُلْتَزَمَةٌ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ بِغَيْرِ أَدْنَى ضَرُورَةٍ، وَلَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ تَكَلُّفٌ بِتَرْجِيحِ اللَّفْظِ عَلَى بَلَاغَةِ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِهِ: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ٧: ١٢٨ وَقَوْلِهِ: (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (٢٠: ١٣٢) .

(ثُمَّ قَالَ) : وَعِنْدِي أَنَّ الرَّأْفَةَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ وَالرَّحْمَةُ أَعَمُّ، فَإِنَّ الرَّأْفَةَ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ وَقَعَ فِي بَلَاءٍ، وَالرَّحْمَةُ تَشْمَلُ دَفْعَ الْأَلَمِ وَالضُّرِّ وَتَشْمَلُ الْإِحْسَانَ وَزِيَادَةَ الْإِحْسَانِ، فَذِكْرُ الرَّحْمَةِ هُنَا فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَالسَّبَبِيَّةِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الدَّلِيلِ بَعْدَ الدَّعْوَى، فَهُوَ وَاقِعٌ فِي مَوْقِعِهِ كَمَا تُحِبُّ الْبَلَاغَةُ وَتَرْضَى، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ رَءُوفٌ بِالنَّاسِ ; لِأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ فَلَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامَلٍ مِنْهُمْ، وَلَا يَبْتَلِيهِمْ بِمَا يُظْهِرُ صِدْقَ إِيمَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ فِي اتِّبَاعِ رَسُولِهِ لِيُضِيعَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ، بَلْ لِيَجْزِيَهُمْ عَلَيْهِ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ.

وَإِذَا كَانَ أَثَرُ الرَّأْفَةِ دَفْعَ الْبَلَاءِ كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ بَعْدَهَا إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي تَعَالَى بِدَفْعِ الْبَلَاءِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِرَأْفَتِهِ، بَلْ

يُعَامِلُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ وَالْإِحْسَانِ الشَّامِلِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.

ثُمَّ إِنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ بَيَّنُوا أَنَّ كُلًّا مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ فِي الْإِنْسَانِ انْفِعَالٌ فِي النَّفْسِ أَثَرُهُ مَا ذُكِرَ آنِفًا مِنَ الْإِحْسَانِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، وَالِانْفِعَالُ مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، فَتُفَسَّرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ إِذَا وُصِفَ بِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِآثَارِهَا وَغَايَاتِهَا الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ، وَهَذَا مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُخَالِفِ لِمَذْهَبِ السَّلَفِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْمَقَامِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ (ص ٦٤ ج ١) وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.

قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ (الرَّءُوفُ) بِالْمَدِّ، وَالْبَاقُونَ بِالْقَصْرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>