بِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتِ الْجِزْيَةُ عَلَى بَعْضِهِمْ " وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ فِي حَقِّ الْكُلِّ، إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ "! .
وَيُرَدُّ عَلَيْهِ (أَوَّلًا) أَنَّهُ لَا قَائِلَ أَيْضًا بِالْفَرْقِ بَيْنَ حُكْمِ الْقِتَالِ وَحُكْمِ الْجِزْيَةِ
الَّذِي هُوَ غَايَةٌ لَهُ، فَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ إِذَا امْتَنَعُوا عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ؟ وَ (ثَانِيًا) أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمَا قَالَهُ مِنْ تَقْسِيمِ الْيَهُودِ إِلَى مُجَسِّمَةٍ وَغَيْرِ مُجَسِّمَةٍ، وَأَنَّ غَيْرَ الْمُجَسِّمَةِ لَا يَدْخُلُونَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ. وَ (ثَالِثًا) أَنَّهُ إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ قَبُولُهُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَوِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهِ، وَجَعَلَ عَدَمَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ سَبَبًا لِتَرْكِهِ! ! وَ (رَابِعًا) أَنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ كَالدُّعَاءِ مَعَ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَا حَالًّا فِي جِسْمٍ يُنَافِي إِيمَانَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي دَعَوْا إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ النَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةَ صَرَفَتْهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَمَا يُقَالُ فِي الْمُوَحِّدِينَ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ فِي الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّصَارَى كَأَتْبَاعِ آرْيُوسَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْعَقْلِيِّينَ الْمُعَاصِرِينَ مِنْ أَهْلِ أُورُبَّةَ وَغَيْرِهِمْ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي سَائِرِ مَا اشْتُرِطَ فِي قِتَالِهِمْ.
وَأَمَّا مُخَالَفَةُ جَمَاهِيرِ النَّصَارَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلِجَمِيعِ كُتُبِ اللهِ وَرُسُلِهِ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَمَا يَجِبُ مِنْ تَوْحِيدِهِ فَهُوَ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرِيَّاتٍ كَلَامِيَّةٍ، فَأَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الرَّسْمِيَّةِ مِنْهُمْ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَيَعْبُدُونَهُ جَهْرًا بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَيَقُولُونَ بِالتَّثْلِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ أُمَّهُ مَرْيَمَ وَغَيْرَهَا مِنَ الرُّسُلِ وَالصَّالِحِينَ وَتَمَاثِيلِهِمْ، وَلَا يَعُدُّونَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْهُمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمُوَحِّدُونَ لَمْ يَبْلُغُوا أَنْ يَكُونُوا أُمَّةً، وَأُولِي دَوْلَةٍ، بَلْ هُمْ مُتَفَرِّقُونَ فِي جَمِيعِ أُمَمِهِمْ، مَعَ أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ فِي جَمِيعِ الْعَقَائِدِ، وَإِنَّمَا نَسَخَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، كَمَا نَقَلَ عَنْهُ رُوَاةُ الْأَنَاجِيلِ فِي قَوْلِهِ: " مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ، وَإِنَّمَا جِئْتُ لِأُتَمِّمَ " وَأَوَّلُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ التَّوْرَاةِ فِي الْإِيمَانِ التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ، وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى مِنْ وَصَايَاهَا الْعَشْرِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الدِّينِ التَّوْحِيدُ، وَالنَّهْيُ الصَّرِيحُ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ، وَنَقَلُوا عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: " وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ " وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ، وَكَذَا تَفْسِيرِ سُورَتَيْ آلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ بِالشَّوَاهِدِ مِنْ كُتُبِهِمْ.
وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ فَالْفَرِيقَانِ يُخَالِفَانِ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا الْمُوَحِّدُونَ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ بِأَنَّ حَيَاةَ الْآخِرَةِ رُوحَانِيَّةٌ مَحْضَةٌ يَكُونُ فِيهَا أَهْلُهَا مِنَ النَّاسِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِيهَا إِنْسَانًا لَا تَنْقَلِبُ حَقِيقَتُهُ، بَلْ يَبْقَى مُؤَلَّفًا مِنْ جَسَدٍ وَرُوحٍ، وَيَتَمَتَّعُ الْكَامِلُونَ النَّاجُونَ بِجَمِيعِ نَعِيمِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ، وَتَكُونُ أَرْوَاحُهُمْ أَقْوَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute