عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَأُبُوَّةُ اللهِ الْحَقِيقِيَّةُ لِبَعْضِ الْبَشَرِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْخَلْقِ لَا تُعْقَلُ، وَأُبُوَّةُ التَّبَنِّي تَزْوِيرٌ يَجِلُّ اللهُ عَنْهُ كَمَا يَتَنَزَّهُ عَنْ مُجَانَسَةِ الْخَلْقِ بِالْأُبُوَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالْأَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْأُبُوَّةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إِنْ صَحَّ النَّقْلُ أَنَّهَا مَجَازٌ عَنِ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالتَّكْرِيمِ، وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ حَظَّ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ أَعْلَى مِنْ حَظِّ يَعْقُوبَ وَأَفْرَايِمَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ مِمَّنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ هَذَا اللَّقَبُ فِي أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَمِنَ الْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَالطَّعْنِ فِي تَنْزِيهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ مُسْتَقِلِّ الْفِكْرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ ابْنًا حَقِيقِيًّا، وَأَبْنَاءَ بِالتَّبَنِّي، أَيْ أَدْعِيَاءَ، وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي أَبْنَاءِ التَّبَنِّي الَّذِي كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَ الْعَرَبِ وَأَبْطَلَهُ بِالْإِسْلَامِ: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ (٣٣: ٤ و٥) .
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ ضَمِيرِ الْجَمْعِ وَضَمِيرِ الْمُفْرَدِ فِيمَا نَقَلُوهُ فَسَبَبُهُ يَعْرِفُهُ الْعَوَامُّ كَالْخَوَاصِّ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمْعَ لِلْجَمَاعَةِ وَالْمُفْرَدَ لِلْمُفْرَدِ، وَلَوْ نَقَلُوهُ عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: " أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ " لَكَانَ لَهُمْ شُبْهَةٌ فِي هَذِهِ التَّفْرِقَةِ. عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ الرَّبِّ فِي دَاوُدَ (مز ٨٩: ٢٦ هُوَ يَدْعُونِي أَنْتَ أَبِي) فَإِذَا كَانَتْ إِضَافَةُ لَفْظِ أَبٍ إِلَى ضَمِيرِ الْمُفْرَدِ الْمُتَكَلِّمِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ ابْنًا حَقِيقِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ كَانَ هَذَا الْفَخْرُ لِدَاوُدَ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ لِإِضَافَةِ ابْنٍ إِلَى ضَمِيرِ الرَّبِّ الْمُفْرَدِ مِنَ الِاخْتِصَاصِ مَا يُسَاوِي بَلْ يَفُوقُ إِضَافَةَ لَفْظِ الْأَبِ إِلَى ضَمِيرِ الْعَبْدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْ قَوْلِ الرَّبِّ (٤: ٢٢ ابْنِي بِكْرِي إِسْرَائِيلُ) وَمِثْلَهُ قَوْلُهُ فِي سِفْرِ أَرْمَيَا (٣١: ٩ إِنِّي صِرْتُ أَبًا لِإِسْرَائِيلَ وَإِفْرَايِمَ هُوَ بِكْرِي) وَوَصْفُ الْأَبِ الِابْنَ بِكَوْنِهِ بِكْرًا لَهُ يَقْرُبُ بِهِ مِنَ الْحَقِيقَةِ أَوِ الِاخْتِصَاصِ مَا لَا يَقْرُبُ مِثْلَهُ بِإِضَافَةِ الِابْنِ اسْمَ أَبِيهِ إِلَى ضَمِيرِ نَفْسِهِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُتَبَنَّى يُخَاطِبُ مُتَبَنِّيَهُ وَيُخْبِرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ " أَبِي " كَالِابْنِ مِنَ الصُّلْبِ، وَلَكِنَّ الرَّجُلَ لَا يَصِفُ مَنْ تَبَنَّاهُ
وَلَا يُخْبِرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ ابْنِيَ الْبِكْرِ.
(٩) قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْضَاءٌ فِي عَائِلَةِ اللهِ الرُّوحِيَّةِ - مَا أَمْلَاهُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّ عَقْلَهُ لَا يَفْهَمُ مِنْ لَفْظِ " ابْنِ اللهِ وَأَبْنَاءِ اللهِ " إِلَّا الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا يُعْقَلُ مِنْ نُصُوصِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِي إِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَسِيحِ بِكَثْرَةٍ أَوْ نَوْعِ امْتِيَازٍ، إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ هَذِهِ الْعَائِلَةِ الرُّوحِيَّةِ الْمُدَّعَاةِ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يُنْكِرُونَ هَذَا الِامْتِيَازَ فَإِنَّهُمْ يُفَضِّلُونَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَجْدَادِهِ إِسْرَائِيلَ وَدَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَقَبُ (ابْنِ اللهِ) فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ بَلْ يُفَضِّلُونَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ مَا عَدَا إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَمُحَمَّدَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute