وَإِسْنَادُ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ الْمُزْرِيَةِ إِلَى الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ مِنْ دَقَائِقِ تَحَرِّي الْحَقِّ فِي عِبَارَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَهُوَ لَا يَحْكُمُ عَلَى الْأُمَّةِ الْكَبِيرَةِ بِفَسَادِ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا أَوْ فِسْقِهِمْ أَوْ ظُلْمِهِمْ، بَلْ يُسْنِدُ ذَلِكَ إِلَى الْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ، أَوْ يُطْلِقُ اللَّفْظَ الْعَامَّ ثُمَّ يَسْتَثْنِي مِنْهُ، فَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (٥: ٦٢، ٦٣) وَمِنَ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِيهِمْ: قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (٥: ٥٩) وَمِنَ الثَّالِثِ: قَوْلُهُ فِي الْمُحَرِّفِينَ لِلْكَلِمِ الطَّاعِنِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ: وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (٤: ٤٦) وَقَدْ نَبَّهْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى هَذَا الْعَدْلِ الدَّقِيقِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَلَى الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا نُكَرِّرُهُ لِعَظِيمِ شَأْنِهِ، وَذَكَرْنَا مِنْهُ هُنَا بَعْضَ مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، مِنْ قَبِيلِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ.
وَالْمَعْنَى الْعَامُّ لِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ هُوَ أَخْذُهَا بِغَيْرِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَبْذُلُ النَّاسُ فِيهَا هَذِهِ الْأَمْوَالَ بِحَقٍّ يَرْضَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) مَا يَبْذُلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لِمَنْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ عَابِدٌ قَانِتٌ لِلَّهِ زَاهِدٌ فِي الدُّنْيَا ; لِيَدْعُوَ لَهُمْ وَيَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ فِي قَضَاءِ حَاجَاتِهِمْ وَشِفَاءِ مَرْضَاهُمْ ; لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ اللهَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُ وَلَا يَرُدُّ شَفَاعَتَهُ - وَالدُّعَاءُ مَشْرُوعٌ دُونَ أَخْذِ الْمَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ، وَالرَّجَاءُ بِاسْتِجَابَتِهِ حَسَنٌ، وَاعْتِقَادُهُمْ بِالْجَزْمِ جَهْلٌ، أَوْ لِظَنِّهِمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَاهُ سُلْطَانًا وَتَصَرُّفًا فِي الْكَوْنِ فَهُوَ يَقْضِي الْحَاجَاتِ مِنْ دَفْعِ الضُّرِّ عَمَّنْ شَاءَ، وَجَلْبِ الْخَيْرِ لِمَنْ شَاءَ مَتَى شَاءَ، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ فِي الْأَصْلِ، وَمِمَّنْ طَرَأَتْ عَلَيْهِمُ الْعَقَائِدُ الْوَثَنِيَّةُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَأَوَّلَهَا لَهُمُ الرُّؤَسَاءُ الدِّينِيُّونَ الْمُضِلُّونَ بِأَنَّهَا لَا تُنَافِي التَّوْحِيدَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذِهِ النَّزَعَاتِ الشِّرْكِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَمِنْهُ أَنَّ غَيْرَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ.
(وَمِنْهَا) مَا يَأْخُذُهُ سَدَنَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْمَعَابِدِ الَّتِي بُنِيَتْ بِأَسْمَائِهِمْ مِنَ الْهَدَايَا وَالنُّذُورِ، الَّتِي يَحْمِلُهَا إِلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ أَمْثَالُ مَنْ ذَكَرْنَا مِمَّنْ لَا يَعْقِلُونَ مَعْنَى التَّوْحِيدِ الْمُجَرَّدِ وَالنَّصَارَى يَبْنُونَ الْكَنَائِسَ وَالْأَدْيَارَ بِأَسْمَاءِ الْقِدِّيسِينَ وَالْقِدِّيسَاتِ، فَتُحْبَسُ عَلَيْهَا الْأَرَاضِي وَالْعَقَارَاتُ، وَتُقَدَّمُ لَهَا النُّذُورُ وَالْهَدَايَا تَقَرُّبًا إِلَى تِلْكَ الْأَسْمَاءِ أَوِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ مِمَّا اتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ سَنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الصَّحِيحِ، وَالْوَقْفُ عَلَى الدِّيرِ أَوِ الْكَنِيسَةِ عِنْدَهُمْ كَالْوَقْفِ عَلَى الْمَسْجِدِ عِنْدَنَا قُرْبَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَأَخْذُ الْمَالِ وَإِعْطَاؤُهُ فِي بِنَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute