للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رَسُولِي عَنِّي، فَإِنَّنِي الْقَدِيرُ عَلَى جَزَائِكُمْ بِمَا وَعَدْتُكُمْ وَأَوْعَدْتُكُمْ، وَقَدْ وَعَدْتُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِأَنْ أُمَكِّنَ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَيْتُ لَهُمْ وَأُبَدِّلَهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا، وَإِنَّنِي لَا أُخْلِفُ الْمِيعَادَ.

وَالْآيَةُ تُرْشِدُنَا إِلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ هُوَ الَّذِي يُخْشَى جَانِبُهُ وَأَنَّ الْمُبْطِلَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْشَى ; فَإِنَّ الْحَقَّ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَمَا آفَةُ الْحَقِّ إِلَّا تَرْكُ أَهْلِهِ لَهُ، وَخَوْفُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ فِيهِ.

وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا مَنْ لَهُ شُبْهَةُ حَقٍّ كَصَاحِبِ النِّيَّةِ السَّلِيمَةِ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَيَتْرُكُ الْحَقَّ لِأَنَّهُ عَمِيَ عَلَيْهِ، وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ لَأَخَذَ بِهِ، وَهُوَ أَيْضًا لَا يُخْشَى جَانِبُهُ، خِلَافًا لِمَا فَهِمَ بَعْضُ الطُّلَّابِ مِنْ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَاهُ مِنْ مُشَارَكَةِ الظَّالِمِينَ فِي عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، فَأُولَئِكَ لَا يُخْشَوْنَ وَلَا يُبَالَى بِهِمْ، وَهَذَا لَا يُخْشَى عَلَى الْحَقِّ وَلَكِنَّهُ يُبَالَى بِهِ، وَيُعْتَنَى بِأَمْرِهِ بِتَوْضِيحِ السَّبِيلِ، وَتَفْصِيلِ الدَّلِيلِ، لِمَا يُرْجَى مِنْ قُرْبِ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ إِذَا عَرَفَهُ، وَقَوْلُهُ: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) يَعُمُّ الْيَهُودَ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُنَافِقِينَ خِلَافًا لِمَنْ قَالُوا: إِنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ خَاصَّةً، مَعَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا السُّفَهَاءَ بِمَا يَعُمُّ الْفَرِيقَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةَ، وَمَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلَّا أُولَئِكَ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ اعْتَرَضُوا.

ثُمَّ ذَكَرَ الْعِلَّةَ أَوِ الْحِكْمَةَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) بِاسْتِقْلَالِ قِبْلَتِكُمْ فِي بَيْتِ رَبِّكُمُ الَّذِي بَنَاهُ جَدُّكُمْ، وَجَعَلَ الْأُمَمَ فِيهَا تَبَعًا لَكُمْ، وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ عَرَبِيٌّ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، وَبِلِسَانِ الْعَرَبِ نَزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَهُمْ قَوْمُهُ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ أَوَّلًا وَظَهَرَتْ دَعْوَتُهُ فِيهِمْ وَامْتَدَّتْ مِنْهُمْ وَبِهِمْ إِلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَكَانُوا إِذَا آمَنُوا يُحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ وِجْهَتُهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ بَيْتَهُمُ الْحَرَامَ، وَأَنْ يُحْيُوا سُنَّةَ إِبْرَاهِيمَ بِتَطْهِيرِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ; لِأَنَّهُ مَعْبَدُهُمْ وَأَشْرَفُ أَثَرٍ عِنْدَهُمْ، يُنْسَبُ إِلَى أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي بَنَاهُ وَرَفَعَ قَوَاعِدَهُ لِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ شَرَفُهُمْ وَمَجْدُهُمْ، وَمَوْطِنُ عِزِّهِمْ وَفَخْرِهِمْ، فَأَتَمَّ اللهُ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ بِإِعْطَائِهِمْ مَا يُحِبُّونَ، وَتَوْجِيهِ جَمِيعِ شُعُوبِ الْإِسْلَامِ إِلَى بِلَادِهِمْ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ مَا لَا يُحْصَى مِنَ النِّعَمِ. نَعَمْ ; إِنَّ كُلَّ أَمْرٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَامْتِثَالُهُ نِعْمَةٌ، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ فِيهِ حِكْمَةٌ ظَاهِرَةٌ وَشَرَفٌ لِلْأُمَّةِ يَتَعَلَّقُ بِتَارِيخِهَا الْمَاضِي وَبِمَجْدِهَا

الْآتِي، وَكَانَ أَثَرُهُ حَمِيدًا نَافِعًا فِيهَا، تَكُونُ النِّعْمَةُ بِهِ أَتَمَّ وَالْمِنَّةُ أَكْمَلَ ; وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِالْإِتْمَامِ.

وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الْقِبْلَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ: أَنَّ الْكَعْبَةَ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَشْغُولَةً بِالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَكَانَ سُلْطَانُ أَهْلِ الشِّرْكِ مُتَمَكِّنًا فِيهَا، وَالْأَمَلُ فِي انْكِشَافِهِ عَنْهَا بَعِيدًا فَصَرَفَهُ اللهُ أَوَّلًا عَنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتٍ مُدَنَّسٍ بِعِبَادَةِ الشِّرْكِ - وَقَدْ كَانَ اللهُ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِتَطْهِيرِهِ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ - إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، وَلَمَّا قَرُبَ زَمَنُ تَطْهِيرِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَعِبَادَتِهَا وَإِزَالَةِ سُلْطَةِ الْوَثَنِيِّينَ عَنْهُ، جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى قِبْلَةً

<<  <  ج: ص:  >  >>