تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ بَطَّالٍ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (٢: ٢١٩) أَيْ: مَا فَضَلَ عَنِ الْكِفَايَةِ فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.
أَقُولُ: وَأَمَّا أَبُو ذَرٍّ فَأَخْبَارُ مَذْهَبِهِ مَشْهُورَةٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْتُ بِالْرَّبَذَةِ (وَهِيَ بِالْفَتْحِ مَكَانٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ) فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، فَقُلْتُ: مَا أَنْزَلَكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ أَقْدَمَ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتَ قَرِيبًا، فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ. اهـ.
ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ إِنَّمَا سَأَلَ أَبَا ذَرٍّ عَنْ نُزُولِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ؛ لِأَنَّ مُبْغِضِي عُثْمَانَ كَانُوا يُشَنِّعُونَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ نَفَى أَبَا ذَرٍّ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو ذَرٍّ أَنَّ نُزُولَهُ فِيهِ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ. (قَالَ) نَعَمْ أَمَرَهُ عُثْمَانُ بِالتَّنَحِّي عَنِ الْمَدِينَةِ لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي خَافَهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَذْهَبِهِ الْمَذْكُورِ فَاخْتَارَ الرَّبَذَةَ، وَقَدْ كَانَ يَغْدُو إِلَيْهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (قَالَ) وَفِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالُوا لِأَبِي ذَرٍّ وَهُوَ بِالرَّبَذَةِ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ فَعَلَ بِكَ وَفَعَلَ، فَهَلْ أَنْتَ نَاصِبٌ لَنَا رَأْيَهُ؟ - يَعْنِي فَنُقَاتِلَهُ - فَقَالَ: لَا، لَوْ أَنَّ عُثْمَانَ سَيَّرَنِي مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ.
وَذُكِرَ عَنْ أَبِي يَعْلَى بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: إِنَّهُ يُؤْذِينَا - فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: " إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَنْ بَقِيَ عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدْتُهُ عَلَيْهِ " وَأَنَا بَاقٍ عَلَى عَهْدِهِ. قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِالشَّامِ. وَكَانَ يُحَدِّثُهُمْ وَيَقُولُ: لَا يَبِيتَنَّ عِنْدَ أَحَدِكُمْ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِلَّا مَا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ يُعِدُّهُ لِغَرِيمٍ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ: إِنْ كَانَ لَكَ بِالشَّامِ حَاجَةٌ فَابْعَثْ إِلَى أَبِي ذَرٍّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ أَنِ اقْدَمْ عَلَيَّ، فَقَدِمَ اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ فِي قِصَّةِ أَبِي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عِبْرَةً بِمَا كَانَ مِنْ دَسَائِسِ الشِّيعَةِ فِي الْخُرُوجِ عَلَى عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ حُرِّيَّةَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ وَاحْتِرَامِ الْعُلَمَاءِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي فَوَائِدِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الْفَتْحِ: وَفِيهِ مُلَاطَفَةُ الْأَئِمَّةِ لِلْعُلَمَاءِ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَجْسُرْ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ حَتَّى كَاتَبَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute