الْعَامَّةُ أَنَّهَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا بِالرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ لِلْأُمِّيِّينَ، وَالْمُتَعَلِّمِينَ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ عَلَى سَوَاءٍ، فَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الرِّيَاسَاتِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَا تَحَكُّمِ الرُّؤَسَاءِ. وَمِنْ حِكْمَةِ شَهْرِ الصِّيَامِ، وَأَشْهُرِ الْحَجِّ أَنَّهَا تَدُورُ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ، فَتُؤَدَّى الْعِبَادَةُ بِهَذَا الدَّوَرَانِ فِي كُلِّ أَجْزَاءِ السَّنَةِ، فَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ فِي ثَلَاثِينَ سَنَةً يَكُونُ قَدْ صَامَ فِي كُلِّ أَجْزَاءِ السَّنَةِ، وَمِنْهَا مَا يَشُقُّ الصِّيَامُ فِيهِ وَمَا يَسْهُلُ، وَكَذَلِكَ تَكْرَارُ الْحَجِّ، وَفِيهِ حِكْمَةٌ أُخْرَى فِي شَأْنِ الَّذِينَ يُسَافِرُونَ لَهُ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فُصُولُهَا، وَأَيَّامُ الْحَرِّ، وَالْبَرْدِ فِيهَا، وَإِطْلَاقُ " الْكِتَابِ " بِهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى ـ بَعْدَ سَرْدِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ: كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ، (٤: ٢٤) ، وَلَكِنْ ذِكْرُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِلْأَوَّلِ، وَيُنَاسِبُ الثَّانِيَ قَوْلُهُ:
مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ; وَاحِدُهَا حَرَامٌ، (كَسُحُبٍ جَمْعُ سَحَابٍ) ، وَهُوَ مِنَ الْحُرْمَةِ; فَإِنَّ اللهَ ـ تَعَالَى ـ كَتَبَ وَفَرَضَ احْتِرَامَ هَذِهِ الْأَشْهُرِ وَتَعْظِيمَهَا، وَحَرَّمَ الْقِتَالَ فِيهَا عَلَى
لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَنَقَلَتِ الْعَرَب ذَلِكَ عَنْهُمَا بِالتَّوَاتُرِ الْقَوْلِيِّ وَالْعَمَلِيِّ، وَلَكِنَّهَا أَخَلَّتْ بِالْعَمَلِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهَا كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّسِيءِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَهُوَ الْغَايَةُ لِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذِهِ الْأَشْهَرُ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا سَرْدٌ; وَهِيَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَوَاحِدٌ فَرْدٌ، وَهُوَ رَجَبُ، وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا وَتَعْظِيمِهَا سَتَأْتِي. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ لِعِدَّةِ الشُّهُورِ، وَتَقْسِيمِهَا إِلَى حُرُمٍ وَغَيْرِهَا، وَعَدَدُ الْحُرُمِ مِنْهَا، وَقِيلَ: لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ تَحْرِيمِهَا، وَالدِّينُ الْقَيِّمُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُدَانُ اللهُ ـ تَعَالَى ـ بِهِ دُونَ النَّسِيءِ، وَفَسَّرَ الْبَغَوِيُّ الدِّينَ الْقَيِّمَ هُنَا بِالْحِسَابِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مَعْنَاهُ ذَلِكَ الشَّرْعُ الصَّحِيحُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَشْهُرِ مِنَ الْأَحْكَامِ. فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، الضَّمِيرُ فِي فِيهِنَّ لِلْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: لِجَمِيعِ الشُّهُورِ، وَظُلْمُ النَّفْسِ يَشْمَلُ كُلَّ مَحْظُورٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَإِنَّ اللهَ ـ تَعَالَى ـ اخْتَصَّ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ، وَبَعْضَ الْأَمْكِنَةِ بِأَحْكَامٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ تَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ فِيهَا، وَالْمَكْرُوهَاتِ بِالْأَوْلَى، لِأَجْلِ تَنْشِيطِ الْأَنْفُسِ عَلَى زِيَادَةِ الْعِنَايَةِ بِمَا يُزَكِّيهَا، وَيَرْفَعُ شَأْنَهَا، فَإِنَّ مِنْ طَبْعِ الْبَشَرِ الْمَلَلُ، وَالسَّآمَةُ مِنْ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ تَشُقُّ عَلَيْهَا، فَجَعَلَ اللهُ الْعِبَادَاتِ الدَّائِمَةَ خَفِيفَةً لَا مَشَقَّةَ فِي أَدَائِهَا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِنَّ أَدْنَى مَا تَصِحُّ بِهِ صَلَاةُ الْفَرِيضَةِ لَا يَتَجَاوَزُ خَمْسَ دَقَائِقَ لِلرُّبَاعِيَّةِ مِنْهَا وَهِيَ أَطْوَلُهَا، وَمَا زَادَ فَهُوَ كَمَالٌ، وَخُصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِي الْأُسْبُوعِ بِوُجُوبِ الِاجْتِمَاعِ الْعَامِّ لِصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمَاعِ خُطْبَتَيْنِ فِي التَّذْكِيرِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي تُقَوِّي فِي الْمُؤْمِنِينَ حُبَّ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَكُرْهَ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَالتَّعَاوُنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute