رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ: السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ " قَالَ هَذَا فِي مِنًى عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَلَهُ أَلْفَاظٌ أُخْرَى بِزِيَادَةٍ عَمَّا هُنَا. وَالْمُرَادُ مِنِ اسْتِدَارَةِ الزَّمَانِ عَوْدَةُ حِسَابِ الشُّهُورِ
إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ نِظَامِ الْخَلْقِ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ عِنْدَ الْعَرَبِ بِسَبَبِ النَّسِئِ فِي الْأَشْهُرِ.
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَنْحَاءَ، مِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْمُحَرَّمَ صَفَرًا فَيُحِلُّ فِيهِ الْقِتَالَ، وَيُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي صَفَرٍ وَيُسَمِّيهِ الْمُحَرَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْعَلُ سَنَةً هَكَذَا وَسَنَةً هَكَذَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ سَنَتَيْنِ هَكَذَا وَسَنَتَيْنِ هَكَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَخِّرُ صَفَرًا إِلَى رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَرَبِيعًا إِلَى مَا يَلِيهِ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَصِيرَ شَوَّالٌ ذَا الْقِعْدَةِ، وَذُو الْقِعْدَةِ ذَا الْحِجَّةِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيُعِيدُ الْعَدَدَ عَلَى الْأَصْلِ اهـ. وَذُكِرَ عَنِ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ السَّنَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَفِي رِوَايَةٍ ١٢ شَهْرًا و٢٥ يَوْمًا، فَالْمُرَادُ مِنِ اسْتِدَارَةِ الزَّمَانِ إِذًا أَنَّ الْحَجَّ قَدْ وَقَعَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ الَّذِي هُوَ شَهْرُهُ الْأَصْلِيُّ بِمَا كَانَ مِنْ تَنَقُّلِ الْأَشْهُرِ بِالنَّسِيءِ. وَنُقِلَ عَنِ الْخَطَّابِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخَالِفُونَ بَيْنَ أَشْهُرِ السَّنَةِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّأْخِيرِ لِأَسْبَابٍ تَعْرِضُ لَهُمْ، مِنْهَا اسْتِعْجَالُ الْحَرْبِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ ثُمَّ يُحَرِّمُونَ بَدَلَهُ شَهْرًا غَيْرَهُ، فَتَتَحَوَّلُ فِي ذَلِكَ شُهُورُ السَّنَةِ وَتَتَبَدَّلُ، فَإِذَا أَتَى عَلَى ذَلِكَ عِدَّةٌ مِنَ السِّنِينَ اسْتَدَارَ الزَّمَانُ، وَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى أَصْلِهِ فَاتَّفَقَ وُقُوعُ حَجَّةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَ ذَلِكَ اهـ.
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ لِأَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالزَّمَانِ السَّنَةُ، وَقَوْلُهُ " كَهَيْئَتِهِ " أَيِ: اسْتَدَارَ اسْتِدَارَةً مِثْلَ حَالَتِهِ، وَلَفْظُ الزَّمَانِ يُطْلَقُ عَلَى قَلِيلِ الْوَقْتِ وَكَثِيرِهِ. وَالْمُرَادُ بِاسْتِدَارَتِهِ وُقُوعُ تَاسِعِ ذِي الْحِجَّةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ الشَّمْسُ بُرْجَ الْحَمَلِ حَيْثُ يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ اهـ.
وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَلَعَلَّ حِكْمَتَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى تَجْدِيدِ اللهِ تَعَالَى لِدِينِهِ وَإِكْمَالِ هِدَايَتِهِ كَمَا تَجَدَّدَ عُمُرُ الزَّمَانِ بِفَصْلِ الرَّبِيعِ الَّذِي تَحْيَا فِيهِ الْأَرْضُ بِالنَّبَاتِ، فَاسْتِدَارَةُ الزَّمَانِ حِسَابِيَّةٌ وَطَبِيعِيَّةٌ وَدِينِيَّةٌ، وَإِنَّنِي مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ أَشْعُرُ بِأَنَّ لَهُ مَعْنًى غَيْرَ الْحِسَابِ الزَّمَنِيِّ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِلْآيَةِ قَوْلَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فِي اسْتِدَارَةِ الزَّمَانِ بِمَعْنَى مَا سَبَقَ، ثُمَّ قَالَ: وَزَعَمُوا أَنَّ حَجَّةَ الصِّدِّيقِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ. وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي جُمْلَةِ حَدِيثٍ أَنَّهُ اتَّفَقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute