للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَقُولُ: إِنَّهُمْ بِزَكَاةِ أَنْفُسِهِمْ هَذِهِ فَتَحُوا الْعَالَمَ وَكَانُوا أَئِمَّةَ أُمَمِ الْمَدَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَقِرُ جِنْسَهُمْ كُلَّهُ، فَإِنَّ الْأَعَاجِمَ إِنَّمَا عَرَفُوا فَضْلَ الْإِسْلَامِ بِعَدْلِهِمْ وَفَضْلِهِمْ فِي فُتُوحِهِمْ، وَمَا فَهِمُوا الْقُرْآنَ إِلَّا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَتَعَلُّمِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ. وَالرَّسُولُ الَّذِي زَكَّى هَذِهِ الْأُمَّةَ الَّتِي زَكَّتْ أُمَمًا كَثِيرَةً حَقِيقٌ بِأَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ أَزْكَى الْأَنْفُسِ وَأَكْمَلَهَا، وَلَكِنَّنَا عَلِمْنَا أَنَّ بَعْضَ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ يَسْتَدِلُّ بِآيَةِ (لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) (١٩: ١٩) عَلَى تَفْضِيلِ عِيسَى

عَلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَوَصْفُ الْغُلَامِ بِالزَّكِيِّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْغِلْمَانِ، فَضْلًا عَمَّنْ زَكَى الْأَنَامَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْعَبْدِ الَّذِي عَلَّمَهُ مِنْ لَدُنْهُ عِلْمًا (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) (١٨: ٧٤) الْآيَةَ، فَهَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ; لِأَنَّهُمَا لَمْ يُوصَفَا بِوَصْفِهِ؟

وَبَعْدَ ذِكْرِ التَّرْبِيَةِ الْعَمَلِيَّةِ بِالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ ذَكَرَ أَمْرَ التَّعْلِيمِ فَقَالَ: (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أَيِ: الْكِتَابَ الْإِلَهِيَّ، أَوِ الْكِتَابَةَ الَّتِي تَخْرُجُونَ بِهَا مِنْ ظُلْمَةِ الْأُمِّيَّةِ وَالْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ بِاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ فِيمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنْ مَعَانِيهِ، وَأَمَّا الْحِكْمَةُ: فَهِيَ الْعِلْمُ الْمُقْتَرِنُ بِأَسْرَارِ الْأَحْكَامِ وَمَنَافِعِهَا، الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِالسُّنَّةِ.

(أَقُولُ) : وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّهَا أُطْلِقَتْ عَلَى بَعْضِ نُصُوصِ الْكِتَابِ كَالْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ الْإِيجَابِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ الْوَصَايَا الْمَقْرُونَةِ بِعِلَلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) (١٧: ٣٩) وَفِي سُورَةِ لُقْمَانَ أَنَّ اللهَ آتَاهُ الْحِكْمَةَ وَذَكَرَ مِنْهَا وَصَايَاهُ لِابْنِهِ الْمُعَلِّلَةَ بِأَسْبَابِ النَّهْيِ (رَاجِعْ ٣١: ١٢ - ١٩ الْآيَاتِ) فَحِكْمَةُ الْقُرْآنِ أَعْلَى الْحِكَمِ، وَتَلِيهَا حِكْمَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: ((فَهُوَ يَعْمَلُ بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ)) وَفِي لَفْظٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ((الْقُرْآنَ)) بَدَلَ ((الْحِكْمَةَ)) .

وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ هُنَا بِتَفْصِيلٍ فِي مَعْنَى الْحِكْمَةِ لَمْ يُذْكَرْ هُنَاكَ، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: دَعَا الْقُرْآنُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ وَبَيَّنَ أُصُولَ الْأَحْكَامِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُفَصِّلْ سِيرَةَ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ مَعَ السُّوقَةِ وَالْمَرْءُوسِينَ، وَلَمْ يُفَصِّلْ سِيرَةَ الرَّجُلِ مَعَ أَهْلِ بَيْتِهِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ نِظَامَ الْبُيُوتِ - الْعَائِلَاتِ - وَلَمْ يُفَصِّلْ طُرُقَ الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ يَنْبَغِي أَنْ تُؤْخَذَ

<<  <  ج: ص:  >  >>