للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أَيْ: وَيُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ مَا لَمْ يَسْبِقْ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مِنْ شُئُونِ الْعَالَمِ وَنِظَامِ الْبُيُوتِ وَالْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَسِيَاسَةِ الْحُرُوبِ وَالْأُمَمِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ: مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَهُ بِالنَّظَرِ وَالْفِكْرِ، إِذْ لَا سَبِيلَ لِمَعْرِفَتِهِ سِوَى الْوَحْيِ، وَكَرَّرَ الْفِعْلَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ اهـ. يَعْنِي: كَأَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَسِيرَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحْوَالِ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَكُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا ; فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَحَّحَ أَغْلَاطَهُمْ، وَبَيَّنَ سَقَاطَهُمْ، وَخَصَّ هَذَا بِالذِّكْرِ - وَإِنْ كَانَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ - اهْتِمَامًا بِهِ وَتَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ، وَلَكِنَّ تَكْرَارَ الْفِعْلِ وَعَطْفَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا غَيْرَ مَا قَبْلَهُ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مِنْ شُئُونِ أَنْفُسِكُمْ، وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الْحَاكِمَةِ فِيكُمْ، وَقَدْ بَلَغُوا بِتَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْلَغًا فَاقُوا فِيهِ سَائِرَ الْأُمَمِ ; أَيْ: فَالتَّعْلِيمُ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْكِتَابِ بَلْ هُنَاكَ زِيَادَةٌ أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ لِتَبْيِينِهَا، وَالْمُقَابَلَةُ بَيْنَ هَذَا التَّعْلِيمِ وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ: الْقُرْآنُ، وَبِالْآيَاتِ: الدَّلَائِلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ مَصْدَرُ كَتَبَ أَيْ: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَةَ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ أُمِّيِّينَ.

(فَاذْكُرُونِي) فِي قُلُوبِكُمْ بِمَا شَرَعْتُ مِنْ أَمْرِ الْقِبْلَةِ لِلْفَوَائِدِ الثَّلَاثِ الَّتِي تَقَدَّمَ شَرْحُهَا، وَبِمَا أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ مِنَ النِّعْمَةِ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ مِنْكُمْ يُعَلِّمُكُمْ وَيُزَكِّيكُمْ، وَبِكُلِّ مَا أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ ذَلِكَ، وَلَا تَنْسَوْا أَنَّنِي أَنَا الْمُتَفَضِّلُ بِإِفَاضَةِ هَذِهِ النِّعَمِ عَلَيْكُمْ

(أَذْكُرْكُمْ) بِإِدَامَتِهَا وَتَمْكِينِهَا وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا مِنَ النَّصْرِ وَالسُّلْطَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ، وَاذْكُرُونِي بِأَلْسِنَتِكُمْ بِأَسْمَائِي الْحُسْنَى، وَالتَّحَدُّثِ بِنِعَمِي الَّتِي لَا تُحْصَى، وَالثَّنَاءِ عَلَيَّ بِهَا سِرًّا وَجَهْرًا، أَذْكُرْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِرِضَائِي عَنْكُمْ وَقُرْبِي مِنْكُمْ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ، إِذَا ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِذَا ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا)) إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَبِيرَةٌ جِدًّا كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّنِي أُعَامِلُكُمْ بِمَا تُعَامِلُونَنِي بِهِ، وَهُوَ الرَّبُّ وَنَحْنُ الْعَبِيدُ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنَّا وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْهِ ; أَيْ: وَهَذِهِ أَفْضَلُ تَرْبِيَةٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ: إِذَا ذَكَرُوهُ ذَكَرَهُمْ بِإِدَامَةِ النِّعْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَإِذَا نَسُوهُ نَسِيَهُمْ وَعَاقَبَهُمْ بِمُقْتَضَى الْعَدْلِ. ثُمَّ بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهُمْ مَا يَحْفَظُ النِّعَمَ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَزِيدَ بِمُقْتَضَى الْجُودِ وَالْكَرَمِ فَقَالَ: (وَاشْكُرُوا لِي) هَذِهِ النِّعَمَ بِالْعَمَلِ بِهَا وَتَوْجِيهِهَا إِلَى مَا وُجِدَتْ لِأَجْلِهِ (وَلَا تَكْفُرُونِ) أَيْ: لَا تَكْفُرُوا نِعَمِي بِإِهْمَالِهَا أَوْ صَرْفِهَا إِلَى غَيْرِ مَا وُجِدَتْ لِأَجْلِهِ بِحَسَبِ الشَّرْعِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهَذَا تَحْذِيرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا وَقَعَتْ فِيهِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ إِذْ كَفَرَتْ بِنِعَمِ اللهِ تَعَالَى فَحَوَّلَتِ الدِّينَ عَنْ قُطْبِهِ الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ وَإِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الْمُصْلِحُ لِلْأَفْرَادِ وَالِاجْتِمَاعِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>