(٤٩: ١٥) وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي الْجِهَادِ بَلْ يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُوبِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، بَلْ هُمْ يَسْتَعِدُّونَ لَهُ فِي وَقْتِ السِّلْمِ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ مَنِ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَهَلْ يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوكَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ، بَعْدَ إِعْلَانِ النَّفِيرِ الْعَامِّ لَهُ؟ كَلَّا، إِنَّ أَقْصَى مَا قَدْ يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمُ التَّثَاقُلُ وَالْبُطْءُ فِي مِثْلِ هَذَا السَّفَرِ الْبَعِيدِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا يَسْتَأْذِنُكَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ كَرَاهَةَ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنَّ الْجِهَادَ لَا يَكْرَهُهُ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ الَّذِي يَرْجُو اللهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ عَاقِبَةَ الْجِهَادِ الْفَوْزُ بِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: الْغَنِيمَةِ وَالنَّصْرِ، أَوِ الشَّهَادَةِ وَالْأَجْرِ، وَإِنَّمَا قَدْ يَسْتَأْذِنُ صَاحِبُ الْعُذْرِ الصَّحِيحِ مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ قَبِلَ اللهُ عُذْرَهُمْ، وَأَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِي الْآيَتَيْنِ (٩١ و٩٢) رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ إِلَخْ. يَعْنِي رَجُلًا أَعَدَّ فَرَسَهُ رِبَاطًا فِي سَبِيلِ اللهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَيْ: صَيْحَةً لِقِتَالٍ أَوْ فِي قِتَالٍ، أَوْ فَزْعَةً أَيْ: دَعْوَةً لِلْإِغَاثَةِ وَالنَّصْرِ فِيهِ طَارَ عَلَى فَرَسِهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ فِي مَظَانِّهِ، أَيِ: الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَظُنُّ أَنْ يَلْقَى الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ فِيهَا.
وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ لَهُ بِاجْتِنَابِ مَا يُسْخِطُهُ، وَفِعْلِ مَا يُرْضِيهِ وَنِيَّتِهِمْ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا بِالتَّخَلُّفِ كَرَاهَةً لِلْقِتَالِ فَهُوَ يَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الِاسْتِئْذَانُ فِي أَدَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَلَا فِي الْفَضَائِلِ وَالْفَوَاضِلِ مِنَ الْعَادَاتِ، كَقِرَى الضُّيُوفِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَسَائِرِ عَمَلِ الْمَعْرُوفِ، وَيُعْجِبُنِي قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مَا مَعْنَاهُ: مَنْ قَالَ لَكَ: أَتَأْكُلُ؟ هَلْ آتِيكَ بِكَذَا مِنَ الْفَاكِهَةِ أَوِ الْحَلْوَى مَثَلًا؟ فَقُلْ لَهُ: لَا، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُكْرِمَكَ لَمَا اسْتَأْذَنَكَ.
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ مَا سَبَقَ؛ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَجَاءَ الْحَصْرُ فِيهِ بِـ (إِنَّمَا) الَّتِي مَوْضِعُهَا مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى قَدْ عُلِمَ مِنْ مَفْهُومِ الْحَصْرِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ لِأَنَّهُمْ
يَرَوْنَ بَذْلَ الْمَالِ لِلْجِهَادِ مَغْرَمًا يَفُوتُ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَنَافِعِهِمْ بِهِ، وَلَا يَرْجُونَ عَلَيْهِ ثَوَابًا كَمَا يَرْجُو الْمُؤْمِنُونَ، وَيَرَوْنَ الْجِهَادَ بِالنَّفْسِ آلَامًا وَمَتَاعِبَ وَتَعَرُّضًا لِلْقَتْلِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ حَيَاةٌ عِنْدَهُمْ، فَطَبِيعَةُ كُفْرِهِمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تَقْتَضِي كَرَاهَتَهُمْ لِلْجِهَادِ، وَفِرَارَهُمْ مِنْهُ مَا وَجَدُوا لَهُ سَبِيلًا، بِضِدِّ مَا يَقْتَضِيهِ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ أَيْ: وَقَدْ وَقَعَ لَهُمُ الرَّيْبُ وَالشَّكُّ فِي الدِّينِ مِنْ قَبْلُ، فَلَمْ تَطْمَئِنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute