وَسَلَّمَ بِصَدَقَةٍ فَقَسَّمَهَا هَاهُنَا وَهَاهُنَا حَتَّى ذَهَبَتْ، وَرَآهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: مَا هَذَا بِالْعَدْلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَهُنَالِكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَالَهُ أَفْرَادٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ سَبَبُهُ حِرْمَانَهُمْ مِنَ الْعَطِيَّةِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَةِ، وَكَانُوا مِنْ مُنَافِقِي الْأَنْصَارِ، بَلْ كَانَ جَمِيعُ الْمُنَافِقِينَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَنِ الْمُهَاجِرِينَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَسْلَمُوا فِي وَقْتِ ضَعْفِ الْإِسْلَامِ، وَاحْتَمَلُوا الْإِيذَاءَ الشَّدِيدَ فِي سَبِيلِ إِسْلَامِهِمْ، وَلَا مِنَ الْأَنْصَارِ الْأَوَّلِينَ كَالَّذِينِ بَايَعُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي مِنًى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ سَبَبُ حِرْمَانِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْأَنْصَارَ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ، وَمَنِ اسْتَاءَ مِنْهُمْ وَمَنْ تَكَلَّمَ، وَإِرْضَاءُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَهُمْ، وَلَكِنَّ الْآيَةَ نَصٌّ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ، فَجَعَلَ الْغَنَائِمَ سَبَبًا لِنُزُولِهَا مِنْ جُمْلَةِ تَسَاهُلِهِمْ فِيمَا يُسَمُّونَهُ أَسْبَابَ النُّزُولِ. قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ اللَّمْزُ: مَصْدَرُ لَمَزَهُ إِذَا عَابَهُ وَطَعَنَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا أَوْ فِي وَجْهِهِ، وَأَمَّا هَمَزَهُ هَمْزًا فَمَعْنَاهُ عَابَهُ فِي غِيبَتِهِ، وَأَصْلُهُ الْعَضُّ وَالضَّغْطُ عَلَى الشَّيْءِ. وَالْمَعْنَى: وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَعِيبُكَ وَيَطْعَنُ عَلَيْكَ فِي قِسْمَةِ
الصَّدَقَاتِ وَهِيَ أَمْوَالُ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تُحَابِي فِيهَا فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَطَاؤُهُمْ بِاسْتِحْقَاقٍ، كَأَنْ أَظْهَرُوا الْفَقْرَ كَذِبًا وَاحْتِيَالًا أَوْ كَانَ لِتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ أَيْ: وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا فَاجَأَهُمُ السُّخْطُ أَوْ فَاجَئُوكَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَاهَمَّ لَهُمْ، وَلَا حَظَّ مِنَ الْإِسْلَامِ، إِلَّا الْمَنَعَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَنَيْلِ الْحُطَامِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ رِضَاهُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ لِأَجْلِ الْعَطَاءِ فِي وَقْتِهِ وَيَنْقَضِي، فَلَا يَعُدُّونَهُ نِعْمَةً يَتَمَنَّوْنَ دَوَامَ الْإِسْلَامِ لِدَوَامِهَا، وَعَبَّرَ عَنْ سُخْطِهِمْ بِـ " إِذَا " الْفُجَائِيَّةِ، وَبِفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى سُرْعَتِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ. وَهَذَا دَأْبُ الْمُنَافِقِينَ وَخُلُقُهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، كَمَا نَرَاهُ بِالْعِيَانِ، حَتَّى مِنْ مُدَّعِي كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ أَيْ: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا، وَأَعْطَاهُمْ رَسُولُهُ بِقَسْمِهِ لِلْغَنَائِمِ وَالصَّدَقَاتِ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ أَيْ: هُوَ مُحْسِبُنَا وَكَافِينَا فِي كُلِّ حَالٍ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ أَيْ: سَيُعْطِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالْكَسْبِ؛ لِأَنَّ فَضْلَهُ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ، وَيُعْطِينَا رَسُولُهُ مِمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالصَّدَقَاتِ زِيَادَةً مِمَّا أَعْطَانَا مِنْ قَبْلُ، لَا يَبْخَسُ أَحَدًا مِنَّا حَقًّا يَسْتَحِقُّهُ فِي شَرْعِ اللهِ تَعَالَى إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ لَا نَرْغَبُ إِلَى غَيْرِهِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ بِيَدِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute