مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ مِنْ عِبَادِهِ، كَمَا أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لَهُ فِي ذَاتِهِ، وَلِهَذَا نُسِبَ الْحَمْدُ إِلَى اسْمِ الذَّاتِ، الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَعْنَى الرَّحْمَةِ فِي بَسْمَلَةِ كُلِّ سُورَةٍ، هُوَ أَنَّ السُّورَةَ مُنَزَّلَةٌ بِرَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ فَلَا يُعَدُّ مَا عَسَاهُ يَكُونُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَوْ أَثْنَائِهَا مِنْ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ مُكَرَّرًا مَعَ مَا فِي الْبَسْمَلَةِ، وَإِنْ كَانَ مَقْرُونًا بِذِكْرِ التَّنْزِيلِ كَأَوَّلِ سُورَةِ فُصِّلَتْ (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (٤١: ١ - ٢) لِأَنَّ الرَّحْمَةَ فِي الْبَسْمَلَةِ لِلْمَعْنَى الْعَامِّ فِي الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، وَفِي السُّوَرِ لِلْمَعْنَى الْخَاصِّ الَّذِي تُبَيِّنُهُ السُّورَةُ، وَقَدْ لَاحَظَ هَذَا الْمَعْنَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَاصِلَةٌ بَيْنَ السُّوَرِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ فَمُرَادُهُ أَنَّهَا تُقْرَأُ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَتِهَا، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَيَقْرَأَنَّ سُورَةَ كَذَا لَا يَبْرَأُ إِلَّا إِذَا قَرَأَ الْبَسْمَلَةَ مَعَهَا، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِقِرَاءَتِهَا أَيْضًا.
هَذَا - وَأَمَّا حَظُّ الْعَبْدِ مِنْ وَصْفِ اللهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ فَهُوَ أَنْ يَحْمَدَهُ تَعَالَى وَيَشْكُرَهُ بِاسْتِعْمَالِ نِعَمِهِ الَّتِي تَتَرَبَّى بِهَا الْقُوَى الْجَسَدِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، فَلْيُحْسِنْ تَرْبِيَةَ نَفْسِهِ وَتَرْبِيَةَ مَنْ يُوكَلُ إِلَيْهِ تَرْبِيَتُهُ مِنْ أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَمُرِيدٍ وَتِلْمِيذٍ، وَبِاسْتِعْمَالِ نِعْمَتِهِ بِهِدَايَةِ الدِّينِ فِي تَرْبِيَةِ نَفْسِهِ الرُّوحِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَكَذَا تَرْبِيَةُ مَنْ
يُوكَلُ إِلَيْهِ تَرْبِيَتُهُمْ وَأَلَّا يَبْغِيَ كَمَا بَغَى فِرْعَوْنُ فَيَدَّعِيَ أَنَّهُ رَبُّ النَّاسِ، وَكَمَا بَغَى فَرَاعِنَةٌ كَثِيرُونَ وَلَا يَزَالُونَ يَبْغُونَ بِجَعْلِ أَنْفُسِهِمْ شَارِعِينَ يَتَحَكَّمُونَ فِي دِينِ النَّاسِ بِوَضْعِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَمْ يُنَزِّلْهَا اللهُ تَعَالَى، وَبِقَوْلِهِمْ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أَوْ مِنْ عِنْدِ أَمْثَالِهِمْ، فَيَجْعَلُونَ أَنْفُسَهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ. قَالَ تَعَالَى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (٤٢: ٢١) وَفَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتِّخَاذَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحْبَارَهِمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا بِمِثْلِ هَذَا.
وَأَمَّا حَظُّ الْعَبْدِ مَنْ وَصْفِ اللهِ بِالرَّحْمَةِ فَهُوَ أَنْ يُطَالِبَ نَفْسَهُ بِأَنْ يَكُونَ رَحِيمًا بِكُلِّ مَنْ يَرَاهُ مُسْتَحِقًّا لِلرَّحْمَةِ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى حَتَّى الْحَيَوَانُ الْأَعْجَمُ، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ دَائِمًا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَرِيرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَقَالَ: " الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَرُوِّينَاهُ مُسَلْسَلًا بِالْأَوَّلِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ الشَّيْخِ أَبِي الْمَحَاسِنِ مُحَمَّدٍ الْقَاوَقْجِيِّ الطَّرَابُلُسِيِّ الشَّامِيِّ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ رَحِمَ وَلَوْ ذَبِيحَةَ عُصْفُورٍ رَحِمَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَأَشَارَ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى صِحَّتِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي رَحْمَةِ الْحَيَوَانِ وَالرِّفْقِ بِهِ بِغَيْرِ لَفْظِ الرَّحْمَةِ حَدِيثُ: " فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute