للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَيَّنَّا تَفْصِيلَ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْعَظِيمَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ (٣: ١٠٤) الْآيَةَ. وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّفَقَةُ عَلَى الْمَدَارِسِ لِلْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا تَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعْطَى مِنْهَا مُعَلِّمُو هَذِهِ الْمَدَارِسِ مَا دَامُوا يُؤَدُّونَ وَظَائِفَهُمُ الْمَشْرُوعَةَ الَّتِي يَنْقَطِعُونَ بِهَا عَنْ كَسْبٍ آخَرَ، وَلَا يُعْطَى عَالِمٌ غَنِيٌّ لِأَجْلِ عِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ النَّاسَ بِهِ.

وَالتَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ لِبَيَانِ الْأَحَقِّ فَالْأَحَقِّ لِلصَّدَقَاتِ، عَلَى الْقَاعِدَةِ الْغَالِبَةِ عِنْدَ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ فِي تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ عَلَى مَا دُونَهُ فِي الْمَوْضُوعِ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَاوُ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ فِي مَعْطُوفَاتِهَا، فَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ بِهَذِهِ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِهَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: " تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ " وَيَلِيهِمُ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِجَمْعِهَا وَحِفْظِهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ يُعْطَى عُمْلَتَهُ مِنْهَا إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ رَوَاتِبُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ رَأَى وَلِيُّ الْأَمْرِ إِعْطَاءَهُمْ عُمَالَتَهُمْ مِنْهُ، وَيَلِيهِمُ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ يُعْطَوْنَ مِنَ الْغَنَائِمِ أَيْضًا، فَالْحَاجَةُ إِلَيْهِمْ عَارِضَةٌ لَا كَالْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَيَلِيهِمْ مَصْلَحَةُ فَكِّ الرِّقَابِ وَالْعِتْقِ وَهِيَ الْمَصَالِحُ مِنَ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْكَمَالِيَّةِ لَا الضَّرُورِيَّةِ، فَإِنَّ تَأْخِيرَهَا لَا يُرْهِقُ مَعُوزًا كَالْفَقِيرِ، وَلَا يُضَيِّعُ مَصْلَحَةً تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا كَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ، وَيَلِيهَا مُسَاعَدَةُ الْغَارِمِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ غُرْمِهِ، فَهُوَ دُونَ مُسَاعَدَةِ الرَّقِيقِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ رِقِّهِ، وَيَلِيهِمُ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِسَبِيلِ اللهِ، فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَاصِّ مِمَّا قَبْلَهَا الَّذِي تَكْثُرُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَهُوَ دُونَ جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ لِنُدْرَةِ وُجُودِهِ.

وَلَوْلَا إِرَادَةُ التَّرْتِيبِ لَذُكِرَ الْمُسْتَحِقُّونَ مِنَ الْأَفْرَادِ بِأَوْصَافِهِمُ الَّتِي اشْتُقَّتْ مِنْهَا أَلْقَابُهُمْ نَسَقًا (وَهُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَالْغَارِمُونَ

وَابْنُ السَّبِيلِ) ثُمَّ ذُكِرَتْ بَعْدَهُمُ الْمَصَالِحُ الَّتِي أُدْخِلَ عَلَيْهَا " فِي " وَهِيَ الرِّقَابُ وَسَبِيلُ اللهِ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ يَحْجُبُ مَا دُونَهُ حَجْبَ حِرْمَانٍ أَوْ نُقْصَانٍ كَتَرْتِيبِ الْوَارِثِينَ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ اعْتِبَارُهُ فِي حَالِ قِلَّةِ الْمَالِ، فَالْمُتَّجَهُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَهَمُّ وَهُوَ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، وَلَكِنْ بَعْدَ سَهْمِ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا إِنْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوهَا، وَلَمْ يَرَ الْإِمَامُ إِعْطَاءَهُمْ عُمَالَتَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي قِسْمَتِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ.

هَذَا مَا نَفْهُمُهُ مِنَ الْآيَةِ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا، وَلَكِنَّنَا بَعْدَ أَنْ كَتَبْنَا مَا فَهِمْنَاهُ، رَاجَعْنَا الْكَشَّافَ الَّذِي

<<  <  ج: ص:  >  >>