الَّتِي يَتَرَجَّحُ فِيهَا الْعَمَلُ بِمَا يَرَاهُ أُولُو الْأَمْرِ فِي دَرَجَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَفِي بَيْتِ الْمَالِ، وَأَقْرَبُ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ فِي مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ قَوْلُ مَالِكٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ الْمَصْلَحَةِ وَالنَّصِّ جَمِيعًا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا جِدًّا إِذَا أَعْطَاهَا وَاحِدًا انْتَفَعَ بِهِ، وَإِذَا وَزَّعَهُ عَلَى مَنْ يُوجَدُ مِنَ الْأَصْنَافِ أَوْ عَلَى أَفْرَادِ صِنْفٍ وَاحِدٍ كَالْفُقَرَاءِ لَمْ يُصِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ مَالُهُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ. وَأَمَّا جَوَازُ إِعْطَاءِ الْمَالِ الْكَثِيرِ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ فَلَا وَجْهَ لَهُ وَلَا شُبْهَةَ، وَاللهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ أَصْنَافًا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا مَنْ دُونَهُ عِلْمًا وَفَهْمًا. إِنَّ إِعْطَاءَ وَاحِدٍ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ يُعَدُّ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ وَعَمَلًا بِكِتَابِهِ.
وَيَنْبَغِي لِجَمَاعَةِ الشُّورَى مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ أَنْ يَضَعُوا فِي كُلِّ عَصْرٍ وَقُطْرٍ نِظَامًا لِتَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ إِذَا لَمْ تَكْفِ الصَّدَقَاتُ الْجَمِيعَ؛ لِيَمْنَعُوا السَّلَاطِينَ وَالْأُمَرَاءَ
مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِأَهْوَائِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْأَصْنَافِ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ دُونَ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّ دَرَجَاتِ الْحَاجِيَّةِ تَخْتَلِفُ.
(٤) الزَّكَاةُ الْمُطْلَقَةُ وَالْمُعَيَّنَةُ وَمَكَانَتُهَا فِي الدِّينِ، وَحُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْكُفْرِ أَوِ الذَّبْذَبَةِ فِيهَا:
فُرِضَتِ الزَّكَاةُ الْمُطْلَقَةُ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَتُرِكَ أَمْرُ مِقْدَارِهَا وَدَفْعِهَا إِلَى شُعُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَرْيَحِيَّتِهِمْ، ثُمَّ فُرِضَ مِقْدَارُهَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ فِي الْأُولَى: ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ تُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (٢: ٢٧١) وَقَدْ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِمُعَاذٍ: " تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ " وَتَقَدَّمَ. ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْمَصَارِفُ السَّبْعُ أَوِ الثَّمَانِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، فَتَوَهَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَالْحِكْمَةُ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّ تَعْيِينَ الْمَقَادِيرِ، وَقِيَامَ أُولِي الْأَمْرِ بِتَحْصِيلِهَا وَتَوْزِيعِهَا عَلَى مَنْ فُرِضَتْ لَهُمْ، وَتَعَدُّدِ أَصْنَافِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا وُجِدَ بِوُجُودِ حُكُومَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ تُنَاطُ بِهَا مَصَالِحُ الْأُمَّةِ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا فِي دَارٍ تُسَمَّى دَارَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ تُنَفَّذُ فِيهَا بِسُلْطَانِهِ، وَكَانَتْ دَارُ الْهِجْرَةِ إِذْ كَانَتْ مَكَّةُ دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ لَا يُنَفَّذُ فِيهَا لِلْإِسْلَامِ حُكْمٌ، بَلْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِ فِيهَا حُرِّيَّةُ الْجَهْرِ بِالصَّلَاةِ إِلَّا بِحِمَايَةِ قَرِيبٍ أَوْ جَارٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ هُوَ الَّذِي تُؤَدَّى لَهُ صَدَقَاتُ الزَّكَاةِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِجَمْعِهَا وَصَرْفِهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ أَدَائِهَا إِلَيْهِ كَمَا فَعَلَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَرَضِيَ عَنْهُ فِيمَنْ مَنَعُوا الزَّكَاةَ مِنَ الْعَرَبِ وَقَالَ: " وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute