وَأَمَّا الْأَعْدَاءُ غَيْرُ الْمُحَارِبِينَ كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ عَنْهُمْ لِرَسُولِهِ: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦٣: ٤) وَالْكُفَّارُ الْمُعَاهَدِينَ وَالذِّمِّيِّينَ الْخَائِنِينَ فَكَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُعَامِلُهُمْ أَوَّلًا بِلُطْفِهِ وَلِينِهِ بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ، وَكَانَتْ هَذِهِ
الْمُعَامَلَةُ هِيَ الَّتِي جَرَّأَتِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى أَذَاهُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِيهِ: " هُوَ أُذُنٌ " (٦١) وَكَذَلِكَ كُفَّارُ الْيَهُودِ، كَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَاهَدَهُمْ وَوَفَّى لَهُمْ، وَكَانُوا يُؤْذُونَهُ حَتَّى بِتَحْرِيفِ السَّلَامِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: السَّامُّ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ الْمَوْتُ، فَيَقُولُ: " وَعَلَيْكُمْ " ثُمَّ تَكَرَّرَ نَقْضُهُمْ لِعَهْدِهِ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ (ص٤٦ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ) فَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْغِلْظَةِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ فِي جِهَادِهِ التَّأْدِيبِيِّ لَهُمْ - وَمِثْلُهَا بِنَصِّهَا فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ - وَهُوَ جِهَادٌ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ ; لِأَنَّهُ مَوْقِفٌ وَسَطٌ بَيْنِ رَحْمَتِهِ وَلِينِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ، وَشِدَّتِهِ فِي قِتَالِهِ لِلْأَعْدَاءِ الْحَرْبِيَّيْنِ، يَجِبُ فِيهِ إِقَامَةُ الْعَدْلِ، وَاجْتِنَابُ الظُّلْمِ، وَمِنْ كَلَامِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِيهِ: أَذِلُّوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ، وَهَذِهِ الْغِلْظَةُ الْإِرَادِيَّةُ (أَيْ غَيْرُ الطَّبِيعِيَّةِ) تَرْبِيَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَعُقُوبَةٌ، يُرْجَى أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِهِدَايَةِ مَنْ لَمْ يَطَبَعِ الْكُفْرُ عَلَى قَلْبِهِ، وَتُحِيطْ بِهِ خَطَايَا نِفَاقِهِ، فَإِنَّ اكْفِهْرَارَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي وُجُوهِهِمْ تَحْقِيرٌ لَهُمْ يَتْبَعُهُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَبِهِ وَبِمَا سَيَأْتِي يَفْقِدُونَ جَمِيعَ مَنَافِعَ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ الْأَدَبِيَّةِ، وَمَظَاهِرَ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ وَعَطْفِهِ، فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مُحْتَقَرٌ بَيْنَ قَوْمِهِ وَأَبْنَاءِ جِنْسِهِ، مِنَ الرَّئِيسِ وَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَغَيْرِهِ يَضِيقُ صَدْرُهُ، وَيَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ بِالْمُحَاسَبَةِ، فَيَرَاهَا إِذَا أَنْصَفَ وَتَدَبَّرَ مُلِيمَةً مُذْنِبَةً فَلَا يَزَالُ يُنْحِي عَلَيْهَا بِاللَّائِمَةِ، حَتَّى تَعْرِفَ ذَنْبَهَا، وَتَثُوبَ إِلَى رُشْدِهَا، فَتَثُوبَ إِلَى رَبِّهَا، وَهِيَ سِيَاسَةُ حِكْمَةٍ كَانَتْ سَبَبُ تَوْبَةِ أَكْثَرِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِسْلَامِ أُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنَ الْكَافِرِينَ.
هَذَا وَإِنَّ مُعَاشَرَةَ الرَّئِيسِ مِنْ إِمَامٍ وَمَلِكٍ وَأَمِيرٍ لِمُنَافِقِي قَوْمِهِ بِمِثْلِ مَا يُعَاشِرُ بِهِ الْمُخْلِصِينَ مِنْهُمْ، فِيهِ تَوْطِينٌ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى النِّفَاقِ، وَحَمْلٌ لِغَيْرِهِمْ عَلَى الشِّقَاقِ، فَكَيْفَ إِذَا وَضَعَ الْمُحَاسَنَةَ مَوْضِعَ الْمُخَاشَنَةِ، وَالْإِيثَارَ لَهُمْ حَيْثُ تَجِبُ الْأَثَرَةُ عَلَيْهِمْ، وَبَالَغَ فِي تَكْرِيمِهِمْ بِالْحِبَاءِ وَالِاصْطِفَاءِ، لِمُبَالَغَتِهِمْ فِي التَّمَلُّقِ لَهُ، وَدِهَانِ الدَّهَاءِ، وَالْإِطْرَاءِ فِي الثَّنَاءِ؟ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مُفْسِدَةٌ لِأَخْلَاقِ الدَّهْمَاءِ، وَمُثِيرَةٌ لِحَفَائِظَ الْمُخْلِصِينَ الْفُضَلَاءِ، وَكَمْ أَفْسَدَتْ عَلَى الْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ أَمْرَهُمْ، وَكَانَتْ سَبَبًا لِإِضَاعَةِ مُلْكِهِمْ.
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هَذَا جَزَاؤُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَطَفَهُ عَلَى جَزَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَهُمْ لَا مَأْوَى لَهُمْ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ هُنَالِكَ إِلَّا دَارَ الْعَذَابِ الْكُبْرَى، الَّتِي لَا يَمُوتُ مَنْ أَوَى إِلَيْهَا وَلَا يَحْيَا، فَهُمْ يَصِيرُونَ إِلَيْهَا مَعْتُولِينَ، وَيُدْعَوْنَ إِلَيْهَا مَقْهُورِينَ، لَا يَأْوُونَ إِلَيْهَا مُخْتَارِينَ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هِيَ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٢٥: ٦٦) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute