للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَيَغْفِرَ لَهُمْ، كَمَا كَانَ يَدْعُو لِلْمُشْرِكِينَ كُلَّمَا اشْتَدَّ إِيذَاؤُهُمْ لَهُ وَيَقُولُ: " اللهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَرَوَى مِثْلَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ - وَذَكَرَهُ. وَفِي مُسْلِمٍ " رَبِّ اغْفِرْ " إِلَخْ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَعْنِي نَفْسَهُ حِينَ شَجُّوا رَأْسَهُ فِي أُحُدٍ، فَهُوَ الْحَاكِي وَالْمَحْكِيُّ عَنْهُ. وَالِاسْتِغْفَارُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ لَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١١٣) ; لِأَنَّ النَّهْيَ هُنَا عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ تَبَيَّنَ لِلنَّبِيِّ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ، وَلَاسِيَّمَا بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى الشِّرْكِ لَا لِلْأَحْيَاءِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِينَ، وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الْمَعْنِيُّونَ هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُعَيَّنُونَ الَّذِينَ أَخْبَرَهُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ وَفِيمَا سَيَأْتِي، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ سَبَبَ عَدَمِ مَغْفِرَتِهِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ أَيْ: ذَلِكَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، فَهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِسِرِّهِمْ وَنَجْوَاهُمْ وَبِسَائِرِ الْغُيُوبِ، وَلَا بِوَحْيِهِ لِرَسُولِهِ، وَمَا أَوْجَبَهُ مِنِ اتِّبَاعِهِ، وَلَا بِبَعْثِهِ لِلْمَوْتَى وَحِسَابِهِمْ وَجَزَائِهِمْ، وَلَيْسَ سَبَبُهُ عَدَمَ الِاعْتِدَادِ بِاسْتِغْفَارِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ لَهُمْ ; فَإِنَّ شَرْطَ قَبُولِهِ مَعَ قَابِلِيَّةِ الْمَغْفِرَةِ وَضْعُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ مَا سَبَقَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا

رَحِيمًا (٤: ٦٤) يَعْنِي أَنَّ الْمَغْفِرَةَ إِنَّمَا وُعِدَ بِهَا التَّائِبُونَ الْمُسْتَغْفِرُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ إِذَا اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ. وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ فِي بَاطِنِهِمْ، مُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَاسِقُونَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ أَيْ: جَرَتْ سَنَّتُهُ فِي الرَّاسِخِينَ فِي فُسُوقِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمُ الْمُصِرِّينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ، الَّذِينَ أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ، أَنْ يَفْقِدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلتَّوْبَةِ وَالْإِيمَانَ فَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِمَا سَبِيلًا، وَتَقَدَّمَ وَصْفُهُمْ بِهَذَا الْفُسُوقِ فِي الْآيَةِ (٦٧) وَمِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِنَصِّهَا فِي الْآيَةِ (٢٤) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ وَتَبِعَهُ الْآلُوسِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ سَأَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اللَّامِزُونَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ فَهَمَّ أَنْ يَفْعَلَ، فَنَزَلَتْ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ فَعَلَ، وَاخْتَارَ الرَّازِيُّ عَدَمَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِغْفَارُ لِلْكَافِرِ. وَفِي التَّعْلِيلِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ كَالْمُنَافِقِينَ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، أَوْ صُدُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، وَلَمْزُ الْمُطَّوِّعِينَ لَيْسَ مِنْهُ عَلَى أَنَّ طَلَبَهُمُ الِاسْتِغْفَارَ إِظْهَارٌ لِلتَّوْبَةِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَمْ نَرَهَا فِي كُتُبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>