للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(٢: ١١٢) الْآيَةَ. وَالشَّرْعُ الْإِلَهِيُّ يَجْزِي الْمُحْسِنَ بِأَضْعَافِ إِحْسَانِهِ، وَلَا يُؤَاخَذُ وَلَا يُعَاقَبُ الْمُسِيءُ إِلَّا بِقَدْرِ إِسَاءَتِهِ، فَإِذَا كَانَ أُولَئِكَ الْمَعْذُورُونَ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ مُحْسِنِينَ فِي سَائِرِ أَعْمَالِهِمْ بِالنُّصْحِ الْمَذْكُورِ، انْقَطَعَتْ طُرُقُ الْمُؤَاخَذَةِ دُونَهُمْ، وَالْإِحْسَانُ أَعَمُّ مِنَ النُّصْحِ الْمَذْكُورِ، فَالْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ تَعْلِيلَ رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ بِمَا يَنْتَظِمُونَ بِهِ فِي سِلْكِ الْمُحْسِنِينَ، فَيَكُونُ رَفْعُهُ عَنْهُمْ مَقْرُونًا بِالدَّلِيلِ، فَكُلُّ نَاصِحٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُحْسِنٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى مُؤَاخَذَةِ الْمُحْسِنِ، وَإِيقَاعِهِ فِي الْحَرَجِ، وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي أَعْلَى مَكَانَةٍ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ.

وَلَمَّا ذُكِرَ رَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ عَنْهُمْ بِإِحْسَانِهِمُ السُّلُوكَ فِيمَا هُمْ مَعْذُورُونَ فِيهِ مِنَ الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ، قَفَّى عَلَيْهِ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِمْ، وَالصَّفْحِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ فِيمَا عَدَاهُ، عَلَى قَاعِدَةِ: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٥٥: ٦٠) ؟ فَقَالَ: وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: وَهُوَ تَعَالَى كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، فَهُوَ يَسْتُرُ عَلَى الْمُقَصِّرِينَ مَا لَا يَخْلُو مِنْهُ الْبَشَرُ مِنْ ضَعْفٍ - فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ - لَا يُنَافِي الْإِخْلَاصَ وَالنُّصْحَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَتِهِ فِي عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ الْمُسِيئُونَ عَمَلًا وَنِيَّةً، فَإِنَّمَا يَغْفِرُ لَهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ إِذَا تَابُوا مِنْ نِفَاقِهِمُ الْبَاعِثِ لَهُمْ عَلَى إِسَاءَتِهِمْ.

وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ عَنِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَرْضَى وَالْفُقَرَاءِ، وَنَفْيِ السَّبِيلِ عَنِ الْمُحْسِنِينَ، أَيْ: لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ ذُكِرَ بِشَرْطِهِ، وَلَا سَبِيلَ عَلَى الْمُحْسِنِ مِنْهُمْ فِي قُعُودِهِ، وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ عَلَى الرَّوَاحِلِ فَيَخْرُجُوا مَعَكَ فَلَمْ تَجِدْ مَا تَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ إِلَخْ. وَهَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ لِلْجِهَادِ فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ كَغَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ فَقْدُهُمُ الرَّوَاحِلَ الَّتِي تَحْمِلُهُمْ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. يُقَالُ: حَمَلَهُ عَلَى الْبَعِيرِ أَوْ غَيْرِهِ أَيْ: أَرْكَبَهُ إِيَّاهُ أَوْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ لِيَرْكَبَهُ، وَكَانَ الطَّالِبُ لِظَهْرٍ يَرْكَبَهُ يَقُولُ لِمَنْ يَطْلُبُهُ مِنْهُ احْمِلْنِي.

ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ جَوَابِ الرَّسُولِ لَهُمْ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا فَقَالَ: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أَيْ: انْصَرَفُوا مِنْ مَجْلِسِكَ وَهُمْ فِي حَالٍ بُكَاءٍ شَدِيدٍ هَاجَهُ حُزْنٌ عَمِيقٌ فَكَانَتْ أَعْيُنُهُمْ تَمْتَلِئُ دَمْعًا، فَيَتَدَفَّقُ فَائِضًا مِنْ جَوَانِبِهَا تَدَفُّقًا، حَتَّى كَأَنَّهَا ذَابَتْ فَصَارَتْ دَمْعًا، فَسَالَتْ هَمُّهَا (حُزْنًا) مِنْهُمْ وَأَسَفًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ أَيْ: عَلَى عَدَمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>