للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أَيْ لَا تَعْرِفُهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ بِفِطْنَتِكَ وَدِقَّةِ فَرَاسَتِكَ الَّتِي تَنْظُرُ فِيهَا بِنُورِ اللهِ لِحِذْقِهِمْ وَتَجَنُّبِ مَثَارَاتِ الشُّبْهَةِ، وَأُكِّدَ هَذَا النَّفْيُ بِإِثْبَاتِ الْعِلْمِ بِأَعْيَانِهِمْ لَهُ وَحْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَعَلَّهُمْ أَخْفَى نِفَاقًا وَأَشَدُّ تَقِيَّةً مِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٤٧: ٢٩، ٣٠) .

فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَمْ يُعْلِمْهُ اللهُ بِأَعْيَانِهِمْ كَمَا أَعْلَمَهُ بِمَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ (٧٤) وَلَا فَضَحَهُمْ بِأَقْوَالٍ قَالُوهَا وَلَا بِأَفْعَالٍ فَعَلُوهَا كَمَا فَضَحَ غَيْرَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ; لِأَنَّهُمْ بِمُرُودِهِمْ عَلَى النِّفَاقِ يَتَحَامَوْنَ مَا يَكُونُ شُبْهَةً عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَضَرَرُهُ قَاصِرٌ عَلَيْهِمْ، وَحِكْمَةُ إِخْبَارِهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذَلِكَ أَنْ يَعْلَمُوا هُمْ أَنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يُسِرُّونَ مِنْ نِفَاقِهِمْ، وَيَحْذَرُوا أَنْ يَفْضَحَهُمْ كَمَا فَضَحَ غَيْرَهُمْ ; لِيَتُوبَ الْمُسْتَعِدُّ لِلْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَهُوَ فِي سِتْرِ اللهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يُنْجِزَ مَا أَوْعَدَهُمْ بِقَوْلِهِ: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) أَيْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِحْدَاهُمَا: مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ وَتَوْبِيخِ الضَّمَائِرِ، وَانْتِظَارِ الْفَضِيحَةِ بِهَتْكِ أَسْتَارِ السَّرَائِرِ وَمَا يَتْلُو ذَلِكَ مِنْ جِهَادِهِمْ إِذَا ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ كَغَيْرِهِمْ، وَالثَّانِيَةُ: آلَامُ الْمَوْتِ، وَزُهُوقُ أَنْفُسِهِمْ وَهُمْ كَافِرُونَ، وَضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ، فَأَقْرُبُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْعَذَابُ مَرَّتَيْنِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ (٥٥، ٧٣، ٧٤، ٨٢، ٨٥) فَفِيهِ بَيَانٌ لِكُلِّ مَا يُصِيبُ الْمُنَافِقِينَ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَذَابِ الْوِجْدَانِ الْبَاطِنِ، وَعَذَابِ مَنْ يَفْتَضِحُ أَمْرُهُمْ فِي الظَّاهِرِ، وَوَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَقْوَالٌ فِي هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ بَعْضُهَا فِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا وَبَعْضُهَا مَرْدُودٌ وَمُتَنَاقِضٌ. (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) أَيْ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ، وَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ.

جَاءَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ النَّاسَ مَرَّةً فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ مِنْكُمْ مُنَافِقِينَ فَمَنْ سَمَّيْتُهُ فَلْيَقُمْ)) ثُمَّ قَالَ قُمْ يَا فُلَانُ - حَتَّى سَمَّى ٣٦ رَجُلًا فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ عَدَدُ الَّذِينَ سَبَقَ تَهْدِيدُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِظُهُورِ نِفَاقِهِمْ دُونَ الَّذِينَ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، وَلَكِنْ لَمْ يُرْوَ لَنَا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ بَعْدَ هَذِهِ الْفَضِيحَةِ بِكُفْرِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ وَمُقْتَضَاهُ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى وَتَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ بِالتَّوَاتُرِ أَوِ الِاسْتِفَاضَةِ، وَلَمْ يَرْوِ

لَنَا الْمُحَدِّثُونَ شَيْئًا فِيهِ، وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ.

وَالْعِبْرَةُ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ عُرِفُوا بِأَقْوَالٍ قَالُوهَا وَأَعْمَالٍ عَمِلُوهَا، وَفَرِيقٌ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ وَحَذَقُوهُ حَتَّى صَارَ أَمْلَسَ نَاعِمًا لَا يَكَادُ يَشْعُرُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ يَسْتَنْكِرُهُ مِنْهُ فَيَظْهَرُ عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يُوجَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَلَا سِيَّمَا مُنَافِقِي السِّيَاسَةِ فِي هَذَا الْعَهْدِ، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ الْأَجَانِبُ الْمُعْتَدُونَ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ دُعَاةً وَوَلَائِجَ وَأَعْوَانًا عَلَى اسْتِعْبَادِ أُمَّتِهِمْ وَاسْتِعْمَارِ أَوْطَانِهِمْ، فَمَا مِنْ قُطْرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْطَارِ الَّتِي رُزِئَتْ بِالْأَجَانِبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>