للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الَّذِي بَنَاهُ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقْدَمَهُ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا وَقَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ إِذْ بَنَوْهُ بِجِوَارِهِ مُضَادَّةً لَهُمْ فِي الِاجْتِمَاعِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ.

(٢) الْكُفْرُ أَوْ تَقْوِيَةُ الْكُفْرِ، وَتَسْهِيلُ أَعْمَالِهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ، كَتَمْكِينِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ هُنَالِكَ مَعَ خَفَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِعَدَمِ اجْتِمَاعِهِمْ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَالتَّشَاوُرُ بَيْنَهُمْ فِي الْكَيْدِ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِ ذَلِكَ، قِيلَ لَا بُدَّ هُنَا مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ لِأَنَّ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ نَفْسِهِ لَيْسَ كُفْرًا، وَلَكِنَّ التَّعْلِيلَاتِ الْأَرْبَعَةَ فِي الْآيَةِ هِيَ الْقَصْدُ مِنَ الْبِنَاءِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالِاتِّخَاذِ، وَالْكُفْرُ يُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَعَلَى الْعَمَلِ الْمُنَافِيَيْنِ لِلْإِيمَانِ.

(٣) التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُنَالِكَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ جَمِيعًا فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مَا فِيهِ، وَهُوَ التَّعَارُفُ وَالتَّآلُفُ وَالتَّعَاوُنُ وَجَمْعُ الْكَلِمَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ تَكْثِيرُ الْمَسَاجِدِ وَتَفْرِيقُ الْجَمَاعَةِ مُنَافِيًا لِمَقَاصِدِ الْإِسْلَامِ، وَمِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يُصَلُّوا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ إِذَا تَيَسَّرَ، فَإِنْ تَفَرَّقُوا عَمْدًا وَصَلَّوْا فِي عِدَّةِ مَسَاجِدَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - كَانُوا خَاطِئِينَ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ الصَّحِيحَةَ تَكُونُ حِينَئِذٍ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ الَّذِينَ سَبَقُوا بِالتَّجْمِيعِ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِنَاءَ الْمَسَاجِدِ لَا يَكُونُ قُرْبَةً مَقْبُولَةً عِنْدَ اللهِ إِلَّا إِذَا كَانَ بِقَدْرِ حَاجَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَلِّينَ، وَغَيْرَ سَبَبٍ لِتَفْرِيقِ جَمَاعَتِهِمْ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَاجِدِ مِصْرَ الْقَرِيبِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ - وَكَذَا أَمْثَالُهَا فِي الْأَمْصَارِ الْأُخْرَى - لَمْ تُبْنَ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، بَلْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى بِنَائِهَا الرِّيَاءَ، وَاتِّبَاعَ الْأَهْوَاءِ، مِنْ جَهَلَةِ الْأُمَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ.

(٤) الْإِرْصَادُ لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلِ اتِّخَاذِ هَذَا الْمَسْجِدِ، أَيِ الِانْتِظَارُ وَالتَّرَقُّبُ لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ أَنْ يَجِيءَ مُحَارِبًا، فَيَجِدَ مَكَانًا مَرْصَدًا لَهُ، وَقَوْمًا رَاصِدِينَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْحَرْبِ مَعَهُ، وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ بَنَوْا هَذَا الْمَسْجِدَ مَرْصَدًا لِذَلِكَ. يُقَالُ: رَصَدْتُهُ أَيْ قَعَدْتُ لَهُ عَلَى طَرِيقِهِ أَتَرَقَّبُهُ، وَرَاصَدْتُهُ رَاقَبْتُهُ،

وَأَرْصَدْتُ هَذَا الْجَيْشَ لِلْقِتَالِ وَهَذَا الْفَرَسَ لِلطِّرَادِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنَ الْأَسَاسِ، وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَغْرَاهُمْ بِبِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ لِهَذَا الْغَرَضِ رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ يُعْرَفُ بِأَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ وَعَدَهُمْ بِأَنْ سَيَأْتِيَهُمْ بِجَيْشٍ مِنَ الرُّومِ لِقِتَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ.

(وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى) إِخْبَارٌ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ أَنَّهُمْ سَيَحْلِفُونَ: إِنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِبِنَائِهِ إِلَّا الْخَصْلَةَ أَوِ الْخُطَّةَ الَّتِي تَفُوقُ غَيْرَهَا فِي الْحُسْنِ ; وَهِيَ الرِّفْقُ بِالْمُسْلِمِينَ وَتَيْسِيرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى أُولِي الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَمَنْ يَحْبِسُهُمُ الْمَطَرُ مِنْهُمْ، لِيُصَدِّقَهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُصَلِّيَ لَهُمْ فِيهِ: (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) فِي قَوْلِهِمْ، حَانِثُونَ بِيَمِينِهِمْ. قَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ:

<<  <  ج: ص:  >  >>