للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْغُسْلِ الْحُكْمِيَّةُ، فَالتَّطَهُّرُ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ تَشْمَلُ الطَّهَارَتَيْنِ النَّفْسِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ، وَوَرَدَتِ الرِّوَايَاتُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلِكُلٍّ مِنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ مَوْضِعٌ مِنَ التَّنْزِيلِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْأَوْلَى.

(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أَيِ الْمُبَالِغِينَ فِي الطَّهَارَةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُبَالِغُونَ فِيهَا إِذَا أَحَبُّوهَا، وَحِينَئِذٍ تَكْمُلُ إِنْسَانِيَّتُهُمُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ. وَلَا يُطِيقُ نَجَاسَةَ الْبَدَنِ وَقَذَارَتَهُ إِلَّا نَاقِصُ الْفِطْرَةِ وَالْأَدَبِ، وَأَنْقَصُ مِنْهُ مَنْ يُطِيقُ خُبْثَ النَّفْسِ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ، وَالتَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ. دَعْ رِجْسَ الْمُنَافِقِينَ الْمُرَائِينَ فِي الْأَعْمَالِ، الْأَشِحَّةِ الْبَاخِلِينَ بِالْأَمْوَالِ. وَأَمَّا حُبُّ اللهِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِحُبِّهِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ ; لِأَنَّ الْعَالِمَ بِتَفَاوُتِ الْأَشْيَاءِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالْكَمَالِ وَالنَّقْصِ يَكُونُ مِنْ أَفْضَلِ صِفَاتِهِ حُبُّ الْجَمَالِ وَالْكَمَالِ وَالْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَبُغْضُ أَضْدَادِهَا وَكَرَاهَتُهَا، وَحُبُّهُ اللَّائِقُ بِرُبُوبِيَّتِهِ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ حُبِّنَا، كَتَنَزُّهِ ذَاتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ ذَوَاتِنَا وَصِفَاتِنَا، وَلَكِنْ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمَحْبُوبِينَ مِنْ عِبَادِهِ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَمَعَارِفِهِمْ وَآدَابِهِمْ، وَأَعْلَاهُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ الْقُدْسِيِّ ((وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ)) إِلَخْ.

وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى مُعَلِّلًا مَا وَعَظَ بِهِ نِسَاءَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ لَهُنَّ بِمَا يَلِيقُ بِمَكَانَتِهِنَّ مِنْ رَسُولِهِ: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (٣٣: ٣٣) .

وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَحَبَّتَهُ تَعَالَى لِلْمُطَّهِّرِينَ بِرِضَاهُ عَنْهُمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ فُسِّرَ بِهِ اللَّفْظُ بِبَعْضِ لَوَازِمِهِ، فَإِنْ كَانَ هَرَبًا مِنْ نَظَرِيَّةِ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ اتِّصَافَ اللهِ تَعَالَى بِالْحُبِّ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ انْفِعَالٌ نَفْسِيٌّ يَسْتَحِيلُ عَلَى ذِي الْجَلَالِ، فَيَجِبُ تَفْسِيرُهُ بِلَازِمِهِ الْمَذْكُورِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الرَّحْمَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ - فَهُوَ هُرُوبٌ مِنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ الْحَقِّ، وَوُقُوعٌ فِيمَا فَرُّوا مِنْهُ بِالتَّأْوِيلِ، وَهُوَ تَشْبِيهُ اللهِ بِخَلْقِهِ. إِذْ يُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ الرِّضَا عَاطِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ كَالْحُبِّ، وَالْإِحْسَانَ عَمَلٌ بَدَنِيٌّ كَبَسْطِ الْيَدِ بِالْبَذْلِ وَهُمَا يُسْنَدَانِ إِلَى النَّاسِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِمَا الْخَالِقُ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْخَلْقِ، وَكَذَا الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْمَشِيئَةُ وَالْكَلَامُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا وُضِعَتْ فِي اللُّغَاتِ لِمَعَانِيهَا الْمَعْرُوفَةِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَكَوْنِ الْعِلْمِ صُوَرَ الْمَعْلُومَاتِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْهَا فِي الذِّهْنِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْحَقُّ أَنْ يُوصَفَ تَعَالَى بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِقُيُودِهِ

الثَّلَاثَةِ الَّتِي قَرَّرَهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ. أَيْ بِلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ. فَعِلْمُهُ تَعَالَى انْكِشَافٌ يَلِيقُ بِهِ، وَحُبُّهُ مَعْنًى نَفْسِيٌّ يَلِيقُ بِهِ إِلَخْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>