للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمُرَادُ بِالْمَثَلِ هُنَا بَيَانُ ثَبَاتِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَقُوَّتِهِ وَدَوَامِهِ، وَسَعَادَةِ أَهْلِهِ بِهِ، وَذِكْرِهِ بِأَثَرِهِ وَثَمَرَتِهِ فِي عَمَلِ أَهْلِهِ، وَجِمَاعُهَا التَّقْوَى، وَبِجَزَائِهِمْ عَلَيْهِ وَأَعْلَاهُ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى، وَبَيَانِ ضَعْفِ الْبَاطِلِ وَاضْمِحْلَالِهِ، وَوَهْيِهِ وَقُرْبِ زَوَالِهِ، وَخَيْبَةِ صَاحِبِهِ وَسُرْعَةِ انْقِطَاعِ آمَالِهِ، وَشَرِّ أَهْلِهِ الْمُنَافِقِينَ. وَشَرُّ أَعْمَالِهِمْ مَا اتَّخَذُوهُ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ لِلْمَفَاسِدِ الْأَرْبَعَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا السِّيَاقِ.

وَقَدْ ذَكَرَ فِي وَصْفِ بُنْيَانِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُشَبَّهَ دُونَ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ عَمَلِهِمْ إِلَّا الْمُبَالَغَةَ فِي الطَّهَارَةِ. وَذَكَرَ مِنْ وَصْفِ بُنْيَانِ الْفَرِيقِ الثَّانِي الْهَيْئَةَ الْمُشَبَّهَ بِهَا دُونَ الْمُشَبَّهِ. لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيمَا قَبْلُ مَقَاصِدَهُمْ مِنْهَا كُلَّهَا، وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ.

تَقُولُ فِي الْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الْفَرِيقَيْنِ: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ الَّذِي يَتَّخِذُهُ مَأْوًى وَمَوْئِلًا لَهُ، يَقِيهِ مِنْ فَوَاعِلِ الْجَوِّ وَعُدْوَانِ كُلِّ حَيٍّ، وَمَوْطِنًا لِرَاحَتِهِ، وَهَنَاءَ مَعِيشَتِهِ، عَلَى أَمْتَنِ أَسَاسٍ وَأَثْبَتِهِ، وَأَقْوَاهُ عَلَى مُصَابَرَةِ الْعَوَاصِفِ وَالسُّيُولِ، وَصَدِّ الْهَوَامِّ وَالْوُحُوشِ - هُوَ خَيْرٌ بُنْيَانًا، وَرَاحَةً وَأَمَانًا؟ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى أَوْهَى الْقَوَاعِدِ وَأَقَلِّهَا بَقَاءً وَاسْتِمْسَاكًا فَهِيَ عُرْضَةٌ لِلِانْهِيَارِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ؟

وَأَمَّا مَعْنَى الْمُشَبَّهِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَيُصَوَّرُ هَكَذَا: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا صَادِقًا يَتَّقِي اللهَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَيَبْتَغِي رِضْوَانَهُ فِي أَعْمَالِهِ بِتَزْكِيَةِ نَفْسِهِ بِهَا وَنَفْعِ

عِيَالِهِ: (وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ) كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ خَيْرًا عَمَلًا، وَأَفْضَلَ عَاقِبَةً وَأَمَلًا، وَمِمَّنْ نَزَلَ فِيهِمْ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) (١٨: ١٠٧) أَمْ مَنْ هُوَ مُنَافِقٌ مُرْتَابٌ، مُرَاءٍ كَذَّابٌ، يَبْتَغِي بِأَفْضَلِ مَظَاهِرِ أَعْمَالِهِ الضَّرَرَ وَالضِّرَارَ، وَتَقْوِيَةَ أَعْمَالِ الْكُفْرِ وَمُوَالَاةَ الْكُفَّارِ، وَتَفْرِيقَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَخْيَارِ، وَالْإِرْصَادَ لِمُسَاعَدَةِ مَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنَ الْأَشْرَارِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ عَاقِبَةِ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَضِيحَةِ وَالْعَارِ، وَالْخِزْيِ وَالْبَوَارِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الِانْهِيَارِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْقَرَارُ؟

وَفِي مَعْنَى هَذَا الْمَثَلِ: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (١٣: ١٧) الْآيَةَ.

وَخُلَاصَةُ الْمَثَلَيْنِ أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّادِقَ، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ هُوَ الْمُثْمِرُ الثَّابِتُ، وَأَنَّ النِّفَاقَ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْعَمَلِ الْفَاسِدِ هُوَ الْبَاطِلُ الزَّاهِقُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوَافِقُ قَوْلَ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ: إِنَّهُ لَا يَتَنَازَعُ شَيْئَانِ فِي الْوُجُودِ إِلَّا وَيَكُونُ الْغَالِبُ هُوَ الْأَصْلَحَ مِنْهُمَا. وَيُسَمُّونَ هَذِهِ السُّنَّةَ (نَامُوسَ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ وَبَقَاءِ الْأَمْثَلِ) وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>