فِي كُتُبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا. عَلَى أَنَّ فِي كُتُبِهِمْ أَوْصَافًا لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَأَظْهَرُهَا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَكِتَابِ أَشْعَيَا
فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ إِلَّا بِغَايَةِ التَّمَحُّلِ وَالتَّعَسُّفِ. وَكَذَلِكَ فَعَلُوا بِالدَّلَائِلِ عَلَى نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا انْطِبَاقَهَا عَلَيْهِ وَزَعَمُوا أَنَّهَا لِغَيْرِهِ، وَلَا يَزَالُونَ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ الْغَيْرَ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّأْوِيلِ بَلْ كَتَمُوا مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الْهُدَى وَالْإِرْشَادِ بِضُرُوبِ التَّأْوِيلِ أَيْضًا حَتَّى أَفْسَدُوا الدِّينَ وَانْحَرَفُوا بِالنَّاسِ عَنْ صِرَاطِهِ، وَذَكَرَ جَزَاءَهُمْ فَقَالَ: (أُولَئِكَ) أَيِ: الَّذِينَ كَتَمُوا الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَحُرِمُوا النُّورَ السَّابِقَ وَالنُّورَ اللَّاحِقَ، أَوِ الَّذِينَ شَأْنُهُمْ هَذَا الْكِتْمَانُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ (يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أَمَّا لَعْنُ اللهِ لَهُمْ فَهُوَ حِرْمَانُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا لَعْنُ اللَّاعِنِينَ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَبَ لَعْنُهُمْ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ بِفِعْلَتِهِمْ هَذِهِ مَوْضِعُ لَعْنَةِ اللَّاعِنِينَ الْآتِي ذِكْرُهُمْ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) عَنِ الْكِتْمَانِ (وَأَصْلَحُوا) عَمَلَهُمْ بِالْأَخْذِ بِتِلْكَ الْبَيِّنَاتِ عَنِ النَّبِيِّ وَدِينِهِ وَالْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ (وَبَيَّنُوا) مَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ أَوْ بَيَّنُوا إِصْلَاحَهُمْ، وَجَاهَرُوا بِعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ وَأَظْهَرُوهُ لِلنَّاسِ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يَكْتُمُ عَمَلَهُ وَيُسِرُّهُ مُوَافَقَةً لِلنَّاسِ فِيمَا هُمْ فِيهِ لِئَلَّا يَعِيبُوهُ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ وَإِيثَارِ الْخَلْقِ عَلَى الْحَقِّ ; لِذَلِكَ اشْتَرَطَ فِي تَوْبَتِهِمْ إِظْهَارَ إِصْلَاحِهِمْ وَالْمُجَاهَرَةَ بِأَعْمَالِهِمْ ; لِيَكُونُوا حُجَّةً عَلَى الْمُنْكِرِينَ، وَقُدْوَةً صَالِحَةً لِضُعَفَاءِ التَّائِبِينَ.
(فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أَيْ: أَرْجِعُ وَأَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ بَعْدَ الْحِرْمَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِاللَّعْنَةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ أَنْوَاعِ التَّأْدِيبِ الْإِلَهِيِّ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ بَلْ أَسْنَدَ إِلَى ذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ فِعْلَ التَّوْبَةِ الَّذِي أَسْنَدَهُ إِلَيْهِمْ، وَزَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَأْنِيسِهِمْ وَتَرْغِيبِهِمْ أَنْ قَالَ: (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) يَصِفُ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِكَثْرَةِ الرُّجُوعِ وَالتَّوْبَةِ، لِلْإِيذَانِ بِالتَّكْرَارِ، كُلَّمَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ وَتَابَ، حَتَّى لَا يَيْئَسَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِذَا هُوَ عَادَ إِلَى ذَنْبِهِ. فَأَيُّ تَرْغِيبٍ فِي ذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْهُ لِمَنْ يَشْعُرُ وَيَعْقِلُ؟
ثُمَّ إِنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْآيَةِ هِيَ أَنَّ حُكْمَهَا عَامٌّ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا خَاصًّا، فَكُلُّ مَنْ يَكْتُمُ آيَاتِ اللهِ وَهِدَايَتَهُ عَنِ النَّاسِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِهَذِهِ اللَّعْنَةِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ وَأَشْبَاهُهُ حُجَّةً عَلَى الَّذِينَ لَبِسُوا لِبَاسَ الدِّينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَانْتَحَلُوا الرِّيَاسَةَ لِأَنْفُسِهِمْ بِعِلْمِهِ، حَاوَلُوا التَّفَصِّي مِنْهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْكِتْمَانَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا سُئِلَ الْعَالِمُ عَنْ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى فَكَتَمَهُ، وَأَخَذُوا مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ قَاعِدَةً هِيَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ نَشْرُ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى وَدَعْوَةُ النَّاسِ إِلَيْهِ وَبَيَانُهُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُجِيبَ إِذَا سُئِلَ عَمَّا يَعْلَمُهُ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَالِمٌ غَيْرُهُ، وَإِلَّا كَانَ لَهُ أَنْ يُحِيلَ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُسَلَّمَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْعِلْمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute