تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّمَانِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ لِلْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ إِلَخْ، فَاسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ لَهُمْ وَعَدَمُهُ سِيَّانِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (٤: ٤٨ و١١٦) وَقَدْ شَرَعَ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ التَّأَسِّيَ بِإِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ قَوْمِهِمُ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ، وَاسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْأُسْوَةِ اسْتِغْفَارَ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِيهِ فَقَالَ: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (٦٠: ٤) وَقَدْ بَيَّنَ هَنَا حُكْمَ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ ذَكَرَ وَقَفَّى عَلَيْهِ بِقَاعِدَةِ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا الْجَزَاءُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) هَذَا نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ الْمُجَرَّدِ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ فِيهِ يُسَمَّى نَفْيَ الشَّأْنِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي نَفْيِ الشَّيْءِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُعَلَّلٌ بِالسَّبَبِ الْمُقْتَضِي لَهُ. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ وَلَا مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَبِيٌّ - وَلَا مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ مَنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ - أَنْ يَدْعُوا اللهَ طَالِبِينَ مِنْهُ الْمَغْفِرَةَ لِلْمُشْرِكِينَ (وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) ، لَهُمْ فِي الْأَصْلِ حَقُّ الْبِرِّ وَصِلَةُ الرَّحِمِ. وَكَانَتْ عَاطِفَةُ
الْقَرَابَةِ تَقْتَضِي الْغَيْرَةَ عَلَيْهِمْ وَحُبَّ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ ((وَلَوْ)) هَذِهِ تُفِيدُ الْغَايَةَ لِمَعْطُوفٍ عَلَيْهِ يُحْذَفُ حَذْفًا مُطَّرَدًا لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا تُبِيحُهُ النُّبُوَّةُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَا مِمَّا يَصِحُّ وُقُوعُهُ مِنْ أَهْلِهِمَا - الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَحَتَّى لَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ فَعَدَمُ جَوَازِهِ أَوْلَى. ثُمَّ قَيَّدَ الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ظَهَرَ لَهُمْ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الْخَالِدِينَ فِيهَا بِأَنْ مَاتُوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَلَوْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ كَاسْتِصْحَابِ حَالَةِ الْكُفْرِ إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ نَزَلَ وَحْيٌ يُسَجِّلُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كَإِخْبَارِهِ تَعَالَى عَنْ أُنَاسٍ مِنَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا، أَوْ أَنَّهُمْ طُبِعَ قُلُوبُهُمْ وَخُتِمَ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (٣٦: ١٠) وَمِثْلُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) (٦٣: ٦) إِلَخْ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، إِذْ دَعَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَمَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ إِلَى قَوْلِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) فَامْتَنَعَ وَأَبُو طَالِبٍ مَاتَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَهَلْ نَزَلَتِ الْآيَةُ عَقِبَ مَوْتِهِ ثُمَّ أُلْحِقَتْ بِهَذِهِ السُّورَةِ الْمَدَنِيَّةِ لِأَحْكَامِهَا، أَمْ نَزَلَتْ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ بَرَاءَةَ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِ اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ؟ وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ زَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْرَ أُمِّهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهَا وَاللهُ أَعْلَمُ، وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ الدُّعَاءِ لِمَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَكَذَا وَصْفُهُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute