وَجَبَ عَلَى سَائِرِ الْأَنْفُسِ أَنْ تَتَهَافَتَ فِيمَا تَعَرَّضَتْ لَهُ وَلَا يَكْتَرِثُ لَهَا أَصْحَابُهَا وَلَا يُقِيمُونَ لَهَا وَزْنًا، وَتَكُونُ أَخَفَّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ وَأَهْوَنَهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَرْبَئُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ مُتَابَعَتِهَا وَمُصَاحَبَتِهَا، وَيَضِنُّوا بِهَا عَلَى مَا سَمَحَ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا نَهْيٌ بَلِيغٌ مَعَ تَقْبِيحٍ لِأَمْرِهِمْ، وَتَوْبِيخٍ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَهْيِيجٍ لِمُتَابَعَتِهِ بِأَنَفَةٍ وَحَمِيَّةٍ اهـ.
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ النَّفْيُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّخَلُّفِ عَنْهُ، وَوُجُوبِ الِاتِّبَاعِ لَهُ، بِسَبَبِ أَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُهُمْ فِي جِهَادِهِمْ مِنْ أَذًى وَإِنْ قَلَّ، وَمِنْ إِيذَاءٍ لِلْعَدُوِّ وَإِنْ صَغُرَ، فَهُوَ عَمَلٌ صَالِحٌ لَهُمْ بِهِ أَكْبَرُ الْأَجْرِ، فَلَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ لِقِلَّةِ الْمَاءِ - أَوْ نَصَبٌ لِبُعْدِ الشُّقَّةِ أَوْ قِلَّةِ الظَّهْرِ - أَوْ مَجَاعَةٍ لِقِلَّةِ الزَّادِ - فِي سَبِيلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَإِعْزَازِ دِينِهِ (وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ) وَطْؤُهُمْ إِيَّاهُ لِأَنَّهُ مِنْ دَارِهِمْ، وَيَعُدُّونَ وَطْأَهُ اعْتِدَاءً عَلَيْهِمْ وَاسْتِهَانَةً بِقُوَّتِهِمْ، فَيَغِيظُهُمْ أَنْ تَمَسَّهُ أَقْدَامُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ حَوَافِرُ خُيُولِهِمْ وَأَخْفَافُ رَوَاحِلِهِمْ، فَكَيْفَ إِذَا يَسَّرَ اللهُ فَتْحَهُ لَهُمْ (وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا) أَيْ وَلَا يَبْلُغُونَ مِنْ أَيِّ عَدُوٍّ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ شَيْئًا مِمَّا أَرَادُوا مِنْ جَرْحٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ أَسْرٍ أَوْ هَزِيمَةٍ أَوْ غَنِيمَةٍ (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) أَيْ كُتِبَ لَهُمْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ عَمَلٌ صَالِحٌ مُرْضٍ لِلَّهِ تَعَالَى مَجْزِيٌّ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، فَمَا أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ الَّتِي تَعُمُّ الْأُمُورَ الْعَارِضَةَ كَالْجُوعِ
وَالْعَطَشِ، وَتَشْمَلُ كُلَّ حَرَكَةٍ مِنْ بَطْشَةِ يَدٍ أَوْ وَطْأَةِ قَدَمٍ؟ (إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِهَذَا الْأَجْرِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا الْجِهَادَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْظَمُ أَجْرًا، وَأَنْفَسُ ذُخْرًا قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ حُكْمَ الْآيَةِ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَنْ جَاهَدَ مَعَهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ، عَلَى مَا لَا يَخْفَى مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْأَجْرِ، فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِحْسَانٌ، وَ (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (٥٥: ٦٠) ؟ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
(وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةَ وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أَيْ كَذَلِكَ شَأْنُهُمْ فِيمَا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ صَغُرَ أَمْ كَبُرَ، قَلَّ أَمْ كَثُرَ، وَفِي كُلِّ وَادٍ يَقْطَعُونَهُ فِي سَيْرِهِمْ غَادِينَ أَوْ رَائِحِينَ (وَالْوَادِي: هُوَ مَسِيلُ الْمَاءِ فِي مُنْفَرَجَاتِ الْجِبَالِ وَأَغْوَارِ الْآكَامِ، خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ) لَا يُتْرَكُ شَيْءٌ مِنْهُ أَوْ يُنْسَى بَلْ يُكْتَبُ لَهُمْ: (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) بِكِتَابَتِهِ فِي صُحُفِ أَعْمَالِهِمْ (أَحْسُنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وَهُوَ الْجِهَادُ فَإِنَّهُ عِنْدَ وُجُوبِهِ وَفَرِيضَتِهِ بِالِاسْتِنْفَارِ لَهُ يَكُونُ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ ; إِذْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ حِفْظُ الْإِيمَانِ، وَمُلْكُ الْإِسْلَامِ، وَجَمِيعُ مَا يَتْبَعُهُمَا مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، يُقَالُ جَزَاهُ الْعَمَلَ وَجَزَاهُ بِهِ. كَمَا قَالَ: (ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) (٥٣: ٤١)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute