للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلْعَرَبِ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) (٦٢: ٢) فَالْمِنَّةُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَوْمِهِ أَعْظَمُ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهِ وَبِكِتَابِهِ أَنْهَضُ، وَأَخَصُّ قَوْمِهِ بِهِ قَبِيلَتُهُ قُرَيْشٌ، فَعَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَلَوْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَبِكِتَابِهِ الْعَرَبُ لَمَا آمَنَ الْعَجَمُ، وَهُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (٧: ١٥٨) وَلَكِنَّهُ وَجَّهَ دَعْوَتَهُ إِلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا آنِفًا فِي قِتَالِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، فَالْعَرَبُ آمَنُوا بِدَعْوَتِهِ مُبَاشَرَةً، وَالْعَجَمُ آمَنُوا بِدَعْوَةِ الْعَرَبِ، الْعَرَبُ آمَنُوا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَبَيَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالتَّبْلِيغِ وَالْعَمَلِ، وَبِمَا شَاهَدُوا مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي شَخْصِهِ، وَالْعَجَمُ آمَنُوا بِدَعْوَةِ الْعَرَبِ وَمَا

شَاهَدُوا مِنْ عَدْلِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ، ثُمَّ بِدَعْوَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ لِعُمُومِ بَعْثَتِهِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى مَا يَأْتِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ التَّالِيَةِ (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) (١٠: ٢) إِلَخْ، وَلَكِنَّ آيَةَ أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ هَذِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي كَوْنِ الْبَشَرِ رَسُولًا مِنَ اللهِ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ جَمِيعِ كُفَّارِ الْأُمَمِ، وَآيَةُ آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةَ فِي امْتِنَانِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَصَمِيمِ قَوْمِهِمْ، لِتَأْيِيدِ الْحُجَّةِ بِالْمِنَّةِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، فَإِنَّ مِنْ طَبْعِ كُلِّ قَوْمٍ حُبَّ الِاخْتِصَاصِ بِالْفَضْلِ وَالشَّرَفِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي امْتِنَانِهِ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٤٣: ٤٤) أَيْ شَرَفٌ لَكَ وَلَهُمْ، تُذْكَرُونَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، وَيُدَوَّنُ لَكُمْ فِي التَّوَارِيخِ، وَإِنَّمَا قَاوَمَهُ وَعَانَدَهُ أَكَابِرُ قَوْمِهِ حَتَّى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَنَفَةً وَاسْتِكْبَارًا عَنِ اتِّبَاعِهِ وَهُمْ يَرَوْنَهُ دُونَهُمْ، وَلِمَا يَتَضَمَّنُ اتِّبَاعُهُ مِنَ الْإِقْرَارِ بِكُفْرِهِمْ وَكُفْرِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمُ الَّذِينَ يُفَاخِرُونَ بِهِمْ، مَعَ عَدَمِ ثِقَتِهِمْ بِفَوْزِهِ وَبِأَنَّهُمْ يَنَالُونَ بِاتِّبَاعِهِ مِنْ مَجْدِ الدُّنْيَا فَوْقَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ بِمَسَافَاتٍ تُطَاوِلُ السَّمَاءَ رِفْعَةً وَشَرَفًا، دَعْ مَا هُوَ فَوْقَ مَجْدِ الدُّنْيَا مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ صَارُوا يَفْتَخِرُونَ بِكَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ، بِأَكْثَرَ مِمَّا يُبِيحُهُ دِينُهُ لَهُمْ، حَتَّى صَارَ أَقْرَبُهُمْ يَتَّكِلُ عَلَى نَسَبِهِ فَيُقَصِّرُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَقَدْ أَكَّدَ تَعَالَى هَذِهِ الْمِنَّةَ الْخَاصَّةَ بِوَصْفِهِ هَذَا الرَّسُولَ بِقَوْلِهِ: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) إِلَخْ. الْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَلِقَاءُ الْمَكْرُوهِ الشَّدِيدِ، وَقَيَّدَهُ الرَّاغِبُ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ، وَعَزَّ عَلَى فُلَانٍ الْأَمْرُ: ثَقُلَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَقَالُوا: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَنَفَةِ عَنْهُ، وَ ((مَا)) مَصْدَرِيَّةٌ - أَيْ شَدِيدٌ عَلَى طَبْعِهِ وَشُعُورِهِ الْقَوْمِيِّ عَنَتُكُمْ لِأَنَّهُ مِنْكُمْ، وَهَذَا يَشْمَلُ مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا يَهُونُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونُوا فِي دُنْيَاهُمْ أُمَّةً ضَعِيفَةً ذَلِيلَةً يُعْنِتُهَا أَعْدَاؤُهَا بِسِيَادَتِهِمْ عَلَيْهَا وَتَحَكُّمِهِمْ فِيهَا، وَلَا أَنْ يَكُونُوا فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) الْحِرْصُ شِدَّةُ الرَّغْبَةِ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْمَفْقُودِ، وَشِدَّةُ الْعِنَايَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>