للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَبِالْعُقَابِ مِنْ لَوَازِمِ السُّخْطِ وَالْكُرْهِ وَالْغَضَبِ، فِرَارًا مِنْ تَشْبِيهِ الْخَالِقِ بِعَبِيدِهِ الَّذِينَ تُعَدُّ هَذِهِ الصِّفَاتُ انْفِعَالَاتٍ نَفْسِيَّةً لَهُمْ يَتَنَزَّهُ اللهُ عَنْهَا.

وَمَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ إِثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ حُبَّ اللهِ تَعَالَى وَكُرْهَهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ صِفَاتٌ تَلِيقُ بِهِ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا، وَهِيَ لَا تُمَاثِلُ مَا سُمِّيَ بِاسْمِهَا مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ وَنَفْسَهُ وَعِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ لَا تُمَاثِلُ ذَوَاتِ الْبَشَرِ وَعِلْمَهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ بِلَا فَرْقٍ. بَلْ نَقُولُ: إِنَّ مِنْ خَلْقِ اللهِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ مِنَ الْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ لَا يُمَاثِلُ فِي إِدْرَاكِهِ وَلَا فِي غَيْرِهَا مَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ، بَلْ رُوِيَ فِي ثَمَرِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنْيَا وَلَيْسَ مِثْلَهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ مِنْ أَطْعِمَةِ الدُّنْيَا إِلَّا الْأَسْمَاءَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (٣٢: ١٧) وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَفْسِيرِهِ لَهُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) وَأَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْآيَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَزْعُمُونَ الِانْفِرَادَ بِهَا دُونَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فَهُوَ أَنَّ حُبَّ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ كَالْإِيمَانِ وَالْعَدْلِ وَأَهْلِهِمَا، وَكَرَاهَةَ الْبَاطِلِ كَالْكُفْرِ، وَالشَّرِّ كَالظُّلْمِ وَمُجْتَرِحِيهِمَا، كِلَاهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْمَحْضِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَمَالًا مَحْضًا فَالْعَقْلُ يُوجِبُهُ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ بِأَعْلَى مِمَّا يَكُونُ

مِنْهُ لِلْوُجُودِ الْمُمْكِنِ - فَقَدِ اتَّفَقَ الْعَقْلُ مَعَ النَّقْلِ عَلَى إِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ بِمَعْنًى أَكْمَلَ مِمَّا هِيَ فِي خِيَارِ النَّاسِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ وَضْعُ أَسْمَاءَ لَهَا مِنْ كَلَامِ النَّاسِ تَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِهَا فِي الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْوَحْيِ الْفَاصِلِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٤٢: ١١) فَالتَّنْزِيهُ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى السَّالِبَةِ أَزَالَ مَا يَسْتَلْزِمُهُ التَّشْبِيهُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الْمُوجِبَةِ، بَلْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّشْبِيهِ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي)

(أَفْعَالُ اللهِ فِي تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ خَلْقِهِ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ، لَا يَجْعَلُهُمْ مُجْبَرِينَ بِقُدْرَتِهِ)

قَالَ تَعَالَى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) (٩: ١٤) الْآيَةَ.

يَتَوَهَّمُ أَهْلُ الْجَبْرِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نِحْلَتِهِمْ، وَيَرُدُّهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كَانُوا مُجْبَرِينَ لَكَانَ أَمْرُهُمْ لَغْوًا وَعَبَثًا. وَقَوْلُهُ: (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) مَعْنَاهُ يُعَذِّبُهُمْ بِتَمْكِينِ أَيْدِيكُمْ مِنْ رِقَابِهِمْ قَتْلًا، وَمِنْ صُدُورِهِمْ وَنُحُورِهِمْ طَعْنًا، وَيُؤَكِّدُهُ الْوَعْدُ بَعْدَهُ بِنَصْرِهِمْ وَفِي مَعْنَاهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>