فَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَى كَوْنِهَا آيَاتٍ ; لِأَنَّهُ أَهْمَلَ آلَةَ الْفَهْمِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا وَهِيَ الْعَقْلُ ; وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ كُلِّهَا أَنَّ فِيهَا (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي أَسْبَابِهَا، وَيُدْرِكُونَ حِكَمَهَا وَأَسْرَارَهَا، وَيُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَنَافِعِهَا وَمَضَارِّهَا، وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ، وَالسُّنَنِ الَّتِي قَامَ بِهَا النِّظَامُ، عَلَى قُدْرَةِ مُبْدِعِهَا وَحِكَمْتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ بَرِيَّتِهِ، وَبِقَدْرِ ارْتِقَاءِ الْعَقْلِ فِي الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ يَكْمُلُ التَّوْحِيدُ فِي الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا يُشْرِكُ بِاللهِ أَقَلُّ النَّاسِ عَقْلًا وَأَكْثَرُهُمْ جَهْلًا.
أَلَيْسَ أَكْبَرُ خُذْلَانٍ لِلدِّينِ وَجِنَايَةٍ عَلَيْهِ أَلَّا يَنْظُرَ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ فِي آيَاتِهِ
الَّتِي يُوَجِّهُهُمْ كِتَابُهُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى اسْتِخْرَاجِ الْعِبَرِ مِنْهَا؟ أَلَيْسَ مِنْ أَشَدِّ الْمَصَائِبِ عَلَى الْمِلَّةِ أَنْ يَهْجُرَ رُؤَسَاءُ دِينٍ كَهَذَا الدِّينِ الْعُلُومَ الَّتِي تَشْرَحُ حِكَمَ اللهِ وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ وَيَعُدُّوهَا مُضْعِفَةً لِلدِّينِ أَوْ مَاحِيَةً لَهُ خِلَافًا لِكِتَابِ اللهِ الَّذِي يَسْتَدِلُّ لَهُمْ بِهَا وَيُعَظِّمُ شَأْنَ النَّظَرِ فِيهَا؟ بَلَى ; وَإِنَّهُمْ لَيُصِرُّونَ عَلَى تَقَالِيدِهِمْ هَذِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا حُجَّةٌ وَإِنَّمَا اتَّبَعُوا فِيهَا سَنَنَ قَوْمٍ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَكَانَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُ كَلِمَةً فِي أَهْلِ دِينِهِ الَّذِينَ خَذَلُوهُ: هَكَذَا شَأْنُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ كَافَّةً، كَأَنَّهُمْ تَعَاهَدُوا جَمِيعًا عَلَى أَنْ يَكُونَ سَيْرُهُمْ وَاحِدًا. وَهَذَا الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى فِي الْكَافِرِينَ يُنْفِقُونَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ عَلَى الطَّعْنِ فِي نَبِيِّهَا: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (٥١: ٥٣) .
وَقَدْ يَزْعُمُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعَادُونَ عِلْمَ الْكَوْنِ بِاسْمِ الدِّينِ أَنَّ النَّظَرَ فِي ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَافٍ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا وَمَعْرِفَةِ آيَاتِ صَانِعِهَا وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ مَنْ يَكْتَفِي مِنَ الْكِتَابِ بِرُؤْيَةِ جِلْدِهِ الظَّاهِرِ وَشَكْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ مَا أُودِعَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ. نَعَمْ ; إِنَّ هَذَا الْكَوْنَ هُوَ كِتَابُ الْإِبْدَاعِ الْإِلَهِيِّ الْمُفْصِحُ عَنْ وُجُودِ اللهِ وَكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ، وَإِلَى هَذَا الْكِتَابِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) (١٨: ١٠٩) وَبِقَوْلِهِ: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٍ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ) (٣١: ٢٧) فَكَلِمَاتُ اللهِ فِي التَّكْوِينِ بِاعْتِبَارِ آثَارِهَا وَمِصْدَاقِهَا هِيَ آحَادُ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّهَا تَنْطِقُ بِلِسَانٍ أَفْصَحَ مِنْ لِسَانِ الْمَقَالِ، لَكِنْ لَا يَفْهَمُهُ الَّذِينَ هُمْ عَنِ السَّمْعِ مَعْزُولُونَ وَلِلْعِلْمِ مُعَادُونَ، الْوَاهِمُونَ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ تُقْتَبَسُ مِنَ الْجَدَلِيَّاتِ النَّظَرِيَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ دُونَ الدَّلَائِلِ الْوُجُودِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ زَعْمُهُمْ حَقِيقَةً لَا وَهْمًا لَكَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ اسْتَدَلَّ فِي كِتَابِهِ بِالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْفِكْرِيَّةِ، وَذَكَرَ الدَّوَرَ وَالتَّسَلْسُلَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الِاصْطِلَاحَاتِ الْكَلَامِيَّةِ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ وَالْمَطَرِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْحَيَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي أَرْشَدَنَا الْقُرْآنُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَاسْتِخْرَاجِ الدَّلَائِلِ وَالْعِبَرِ مِنْهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute