للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا جِنَايَةٌ عَلَى الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ

وَالْقَلْبِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا الْبَشَرُ، وَبِهَذَا الْعِلْمِ وَالْهُدَى امْتَازَ الْإِسْلَامُ وَدَخَلَ فِيهِ الْعُقَلَاءُ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ أَفْوَاجًا، ثُمَّ نُكِسَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَاتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ فِي التَّقْلِيدِ لِآبَائِهِمْ وَمَشَايِخِهِمُ الْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى بَعْضِ أَئِمَّةِ عُلَمَائِهِمْ، الَّذِينَ نَهَوْهُمْ عَنِ التَّقْلِيدِ وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِهِ، فَأَبْطَلُوا بِذَلِكَ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْأُمَمِ وَصَارُوا حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَدْعِيَاءَ الْعِلْمِ الرَّسْمِيِّ فِيهِمْ يُنْكِرُونَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ كِتَابِ اللهِ وَهَدْيِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ أَهْلِهِ وَنَحْنُ مَعَهُمْ فِي بَلَاءٍ وَعَنَاءٍ، نُقَاسِي مِنْهُمْ مَا شَاءَ الْجَهْلُ وَالْجُمُودُ مِنِ اسْتِهْزَاءٍ وَطَعْنٍ وَبِذَاءٍ، وَتَهَكُّمٍ بِلَقَبِ ((الْمُجْتَهِدِ)) الَّذِي احْتَكَرَهُ الْجَهْلُ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ.

وَلَوْ كَانَ فِينَا عُلَمَاءُ كَثِيرُونَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ فِي صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، لِدَخَلَ النَّاسُ الْمُسْتَقِلُّونَ فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ أَفْوَاجًا حَتَّى يَعُمَّ الدُّنْيَا، لِأَنَّ التَّعْلِيمَ الْعَصْرِيَّ فِي جَمِيعِ مَدَارِسِ الْأَرْضِ يَجْرِي عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِقْلَالِ فِي الْفَهْمِ وَاتِّبَاعِ الدَّلِيلِ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْأَفْرُعِ وَالْبِلَادِ الْمُقَلِّدَةِ لَهُمْ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ تَقْلِيدِيَّةً وَيَعْتَدُّونَهَا نُظُمًا أَدَبِيَّةً وَاجْتِمَاعِيَّةً لِلْأُمَمِ، فَلِهَذَا يَرَوْنَ الْأَوْلَى بِحِفْظِ نِظَامِهِمُ اتِّبَاعَ دِينِهِمُ التَّقْلِيدِيِّ، وَبِهَذَا يَعْسُرُ عَلَيْنَا أَنْ نُقْنِعَهُمْ بِامْتِيَازِ الْإِسْلَامِ عَلَى دِينِهِمْ، لِأَنَّهُ يَقِلُّ فِينَا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَصَّهُ بِهَا الْقُرْآنُ وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيرَةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

(دَحْضُ شُبْهَةٍ، وَإِقَامَةُ حُجَّةٍ)

يَتَوَهَّمُ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ فِي فَهْمِهِمَا الَّتِي اشْتُهِرَ الْمَنَارُ فِي عَصْرِنَا بِهَا، هِيَ الَّتِي جَرَّأَتْ بَعْضَ الْجَاهِلِينَ عَلَى دَعْوَى الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ تَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ وَالِانْتِقَادِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى اتِّبَاعِهِمْ بِمَا هُوَ ابْتِدَاعٌ جَدِيدٌ، وَاسْتِبْدَالٌ لِلْفَوْضَى بِالتَّقْلِيدِ، وَهُوَ وَهْمٌ سَبَبُهُ الْجَهْلُ بِالدِّينِ وَبِالتَّارِيخِ فَمَذَاهِبُ الِابْتِدَاعِ وَالْإِلْحَادِ قَدِيمَةٌ قَدْ نَجَمَتْ قُرُونُهَا فِي خَيْرِ الْقُرُونِ وَعَهْدِ أَكْبَرِ الْأَئِمَّةِ، وَكَانَ أَشَدَّهَا إِفْسَادًا لِلدِّينِ الدَّعْوَةُ إِلَى اتِّبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْمَعْصُومِينَ الَّذِينَ لَا يُسْأَلُونَ عَنِ الدَّلِيلِ، عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ اتِّبَاعِ أَحَدٍ لَذَّاتِهِ فِي الدِّينِ بَعْدَ

مُحَمَّدٍ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا مَعْصُومَ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنَّ الْمُقَلِّدِينَ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَرِّمِينَ لِلتَّقْلِيدِ قَدِ اتَّبَعُوا الْقَائِلِينَ بِعِصْمَةِ أَئِمَّتِهِمْ، حَتَّى مَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْهُمْ، فَهُمْ يَرُدُّونَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَقْوَالِ أَئِمَّتِهِمْ بَلْ بِأَقْوَالِ كُلِّ مَنْ يَنْتَمِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ. وَإِنَّمَا تَرُوجُ الْبِدَعُ فِي سُوقِ التَّقْلِيدِ الَّذِي يَتْبَعُ أَهْلُهُ كُلَّ نَاعِقٍ، لَا فِي سُوقِ الِاسْتِقْلَالِ وَالْأَخْذِ بِالدَّلَائِلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>