للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اللهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ. وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي إِنْزَالِهِمْ عَلَى ذِمَّةِ الْأَمِيرِ دُونَ ذِمَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ لِئَلَّا يَخْفِرَهَا.

(قَوَاعِدُ الِاجْتِهَادِ مِنَ النُّصُوصِ)

أَحْكَامُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِالْأَعْمَالِ وَالْوَقَائِعِ، وَمِنْهَا قَوَاعِدُ عَامَّةٌ لِلتَّشْرِيعِ، وَالْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ مِنْهَا مَا هُوَ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَلَا مَعْدِلَ عَنِ الْحُكْمِ بِهِ إِلَّا لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنْ فَوَاتِ شَرْطٍ كَدَرْءِ حَدٍّ بِشُبْهَةٍ أَوْ عُذْرِ ضَرُورَةٍ، وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْمَجَاعَةِ أَلَّا يُحَدَّ سَارِقٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ قَطْعِيٍّ يُعْمَلُ فِيهِ بِاجْتِهَادِ مَنْ يُنَاطُ بِهِ الْحُكْمُ وَالتَّنْفِيذُ مِنْ أَمِيرٍ أَوْ قَاضٍ أَوْ قَائِدِ جَيْشٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ.

وَأَمَّا الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ فَهِيَ مَا تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَهَمُّهَا فِي الْإِسْلَامِ تَحَرِّي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْحُقُوقِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَتَقْدِيرِ الْمَصَالِحِ، وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ، وَمُرَاعَاةُ الْعُرْفِ بِشَرْطِهِ، وَدَرْءُ الْحُدُودِ بِالشُّبَهَاتِ، وَكَوْنُ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَتَقْدِيرُ الضَّرُورَةِ بِقَدْرِهَا، وَدَوَرَانُ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ، وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ، وَنَكْتَفِي بِالشَّوَاهِدِ فِي الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ.

(نُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي إِيجَابِ الْعَدْلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ وَحَظْرِ الظُّلْمِ)

لَمَّا كَانَ الْعَدْلُ أَسَاسَ الْأَحْكَامِ، وَمِيزَانَ التَّشْرِيعِ وَقِسْطَاسَهُ الْمُسْتَقِيمَ، أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِهِ وَالْمُسَاوَاةَ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (١٦: ٩٠) وَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (٤: ٥٨) وَقَالَ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (٤: ١٣٥) أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ؛ فَإِنَّ الْقَوَّامَ (بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ لِلْفَاعِلِ بِالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِ التَّهَاوُنِ وَالتَّقْصِيرِ فِيهِ، وَبِأَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ فِي الْمُحَاكَمَاتِ وَغَيْرِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِهَوَى وَلَا مَصْلَحَةِ أَحَدٍ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ وَالِدَيْهِمْ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْهُمْ، وَأَلَّا يُحَابُوا فِيهَا غَنِيًّا لِغِنَاهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ أَوْ تَكْرِيمًا لَهُ، وَلَا فَقِيرًا لِفَقْرِهِ رَحْمَةً بِهِ وَشَفَقَةً عَلَيْهِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ أَوِ الشَّهَادَةِ كَرَاهَةً أَلَّا يَعْدِلُوا فِيهِمَا لِمُرَاعَاةِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ النَّاسِ، وَأَنْذَرَهُمْ عِقَابَهُ إِنْ لَوَوْا وَمَالُوا عَنِ الْحَقِّ أَوْ أَعْرَضُوا عَنْهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>