للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ الْوَفَاءُ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَتَحْرِيمُ الْخِيَانَةِ فِيهَا)

وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ وَتَحْرِيمُ الْخِيَانَةِ فِيهِمَا سِرًّا أَوَ جَهْرًا، كَتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ مَادِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ، كِلَاهُمَا مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ مُحْكَمَةٌ لَا تَدَعُ مَجَالًا لِإِبَاحَةِ نَقْضِ الْعَهْدِ بِالْخِيَانَةِ فِيهِ وَقْتَ الْقُوَّةِ، وَعَدِّهِ قُصَاصَةَ وَرَقٍ عِنْدَ إِمْكَانِ نَقْضِهِ بِالْحِيلَةِ (مِنْهَا) وَالْآيَاتُ فِيهَا كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ أَهَمُّهَا فِي الْجُزْءِ الْعَاشِرِ مِنَ التَّفْسِيرِ.

(الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ الْجِزْيَةُ وَكَوْنُهَا غَايَةً لِلْقِتَالِ لَا عِلَّةً)

قُلْتُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ آيَةِ الْجِزْيَةِ: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (٩: ٢٩) مَا نَصُّهُ:

هَذِهِ غَايَةٌ لِلْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَنْتَهِي بِهَا إِذَا كَانَ الْغَلَبُ لَنَا، أَيْ قَالُوا مَنْ ذُكِرَ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِتَالِ، كَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْكُمْ أَوْ عَلَى بِلَادِكُمْ أَوِ اضْطِهَادِكُمْ وَفِتْنَتِكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أَوْ تَهْدِيدِ أَمْنِكُمْ وَسَلَامَتِكُمْ كَمَا فَعَلَ الرُّومُ فَكَانَ سَبَبًا لِغَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى تَأْمَنُوا عُدْوَانَهُمْ بِإِعْطَائِكُمُ الْجِزْيَةَ فِي الْحَالَيْنِ اللَّذَيْنِ قُيِّدَتْ بِهِمَا. (ثُمَّ قُلْتُ) :

هَذَا - وَإِنَّ الْجِزْيَةَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ تَكُنْ كَالضَّرَائِبِ الَّتِي يَضَعُهَا الْفَاتِحُونَ عَلَى مَنْ يَتَغَلَّبُونَ عَلَيْهِمْ فَضْلًا عَنِ الْمَغَارِمِ الَّتِي يُرْهِقُونَهُمْ بِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ جَزَاءٌ قَلِيلٌ عَلَى مَا تَلْتَزِمُهُ الْحُكُومَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِعَانَةٌ لِلْجُنْدِ الَّذِي يَمْنَعُهُمْ أَيْ يَحْمِيهِمْ مِمَّنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِمْ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سِيرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَأَعْدَلُهُمْ فِي تَنْفِيذِهَا. وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ أَوْرَدْنَا طَائِفَةً مِنْهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقِ الْإِسْلَامَ إِلَى مِثْلِهَا دِينٌ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَلَا قَانُونٌ دَوْلِيٌّ، وَلَا إِرْشَادٌ فَلْسَفِيٌّ أَوْ أَدَبِيٌّ، وَلَا تَبِعَتْهُ بِهَا أُمَّةٌ بِتَشْرِيعٍ وَلَا عَمَلٍ، أَفَلَيَسَ هَذَا وَحْدَهُ دَلِيلًا وَاضِحًا لَدَى مَنْ يُؤْمِنُ بِوُجُوبِ رَبٍّ لِلْبَشَرِ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، بِأَنَّ مُحَمَّدًا الْعَرَبِيَّ الْأُمِّيَّ قَدِ اسْتَمَدَّهَا بِوَحْيٍ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ عَقْلَهُ وَذَكَاءَهُ لَمْ يَكُنْ لِيَبْلُغَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ الْمُعْضِلَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بِدُونِ هَذَا الْوَحْيِ؟ فَكَيْفَ إِذَا أَضَفْنَا إِلَيْهَا مَا تَقَدَّمَ وَمَا يَأْتِي مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَنْبَاءِ الْغَيْبِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ! .

<<  <  ج: ص:  >  >>