للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَوْقَكُمْ، وَهَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي يَعِيشُونَ عَلَيْهَا فِي سِتَّةِ أَزْمِنَةٍ ثُمَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا طَوْرٌ مِنْ أَطْوَارِهَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَحُدُّهُ حَدَثٌ يَحْدُثُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ أُلُوفَ السِّنِينَ مِنْ أَيَّامِ هَذِهِ الْأَرْضِ الْفَلَكِيَّةِ الَّتِي وُجِدَتْ بَعْدَ خَلْقِهَا، أَيْ أَوْجَدَهَا كُلَّهَا بِمَقَادِيرَ قَدَّرَهَا فَإِنَّ الْخَلْقَ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ الَّذِي جَعَلَهُ مَرْكَزَ التَّدْبِيرِ، لِهَذَا الْمُلْكِ الْكَبِيرِ، اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَتَنْزِيهِهِ وَكَمَالِهِ، يُدَبِّرُ أَمْرَ مُلْكِهِ، بِمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُهُ مِنَ النِّظَامِ، وَحِكْمَتُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَالِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ خَلْقِهِمَا، وَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ مِنْ قَبْلِهِمَا، شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ فِيمَا لَا نَعْلَمُ كُنْهَهُ وَلَا صِفَتَهُ مِنْ تَدْبِيرِ هَذَا الْمُلْكِ، وَكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، لَا يُدْرِكُ كُنْهَ شُئُونِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ.

وَالتَّدْبِيرُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّوْفِيقُ بَيْنَ أَوَائِلِ الْأُمُورِ وَمَبَادِئِهَا، وَأَدْبَارِهَا وَعَوَاقِبِهَا، بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَبَادِئُ مُؤَدِّيَةً إِلَى مَا يُرِيدُ مِنْ غَايَاتِهَا، كَمَا أَنَّ تَدَبُّرَ الْأَمْرِ أَوِ الْقَوْلِ هُوَ التَّفَكُّرُ فِي دُبُرِهِ وَهُوَ مَا وَرَاءَهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ الْمُدَبِّرَ لِجَمِيعِ أُمُورِ الْخَلْقِ، لَا يَسْتَنْكِرُ مِنْ تَرْبِيَتِهِ لِعِبَادِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِهِمْ، أَنْ يَفِيضَ مَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ عَلَى مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ، مَا يَهْدِيهِمْ بِهِ لِمَا فِيهِ كَمَالُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ مِنْ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ وَصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْعَالِمِ بِهَذَا التَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ آيَاتُهُ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا الْوَحْيَ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، إِذْ هُوَ مِنْ كَمَالِ تَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ (٧: ٥٤) الِاخْتِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ، وَأَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَثَرِ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَأَشْبَاهِهَا مِنْ آيَاتِ عُلُوِّ الْخَالِقِ تَعَالَى فَوْقَ خَلْقِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ الْجَامِعُ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ.

ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حُجَّةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ، فِي ضِمْنِ حَقِيقَةٍ نَاقِضَةٍ لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ، ذَلِكَ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَمُقَلِّدَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَعِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِمَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُ لَهُمُ النَّفْعَ فِي الدُّنْيَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يُثْبِتُونَ لَهُمُ الشَّفَاعَةَ فِي الْآخِرَةِ بِالْأَوْلَى، وَيُسَمُّونَ الْأَصْنَامَ الَّتِي وُضِعَتْ لِذِكْرَى أُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءِ شُفَعَاءَ أَيْضًا بِالتَّبَعِ، وَسَيَأْتِي فِي (الْآيَةِ ١٨) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ حِكَايَةُ مَا يَقُولُونَهُ فِي هَذِهِ الشَّفَاعَةِ. وَيُقَالُ فِي بَيَانِ وَجْهِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِيهَا: إِنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِلَّهِ شُفَعَاءَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُقَرِّبِينَ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ بِمَا يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَدْفَعُ عَنْكُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُ لَكُمُ النَّفْعَ - وَهُوَ قَوْلٌ مِنْكُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ - فَمَا لَكُمْ تُنْكِرُونَ وَتَعْجَبُونَ أَنْ يُوحِيَ تَعَالَى إِلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْطَفِيَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ مَنْ يُعَلِّمُكُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَهْدِيكُمْ إِلَى الْعَمَلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>