وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ. عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا فَرَضُوا وُجُوَدَهَا، زَعَمَ مُجْرِمُوهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِيهَا كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣٤: ٣٥) وَقَوْلِهِ فِي الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) (٤١: ٥٠) وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ مِنْ كِبَارِ مُجْرِمِيهِمْ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعَتْ لِيَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَعْبُودِيهِمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ فِيهَا كَمَا يَشْفَعُونَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ أَسَاسَ عَقِيدَةِ الشِّرْكِ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنَ اللهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِوَسَاطَةِ الْمُقَرِّبِينَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمُ الْقُرْبُ مِنَ اللهِ وَالْحُظْوَةُ عِنْدَهُ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُدَنَّسَةٌ بِالْمَعَاصِي، بِخِلَافِ دِينِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ عَلَى الْعَاصِي أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ تَائِبًا إِلَيْهِ طَالِبًا مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ.
(قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ جَهَالَتَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ: أَتُخَبِّرُونَ اللهَ تَعَالَى وَتُعْلِمُونَهُ بِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَلَا فِي الْأَرْضِ مِنْ خَوَاصِّ خَلْقِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا شُفَعَاءُ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ لَكَانَ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْكُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ لَهُمْ مِنَ الْمَكَانَةِ عِنْدَهُ أَنْ جَعْلَهُمْ وُسَطَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي قَضَاءِ حَاجِهِمْ مِنْ نَفْعٍ وَضُرٍّ، وَفِي تَقْرِيبِهِمْ إِلَيْهِ زُلْفَى كَالْوُسَطَاءِ عِنْدَ مُلُوكِ الْبَشَرِ، الْجَاهِلِينَ بِأُمُورِ رَعِيَّتِهِمْ وَالْعَاجِزِينَ
عَنْ تَنْفِيذِ مَشِيئَتِهِمْ فِيهِمْ بِدُونِ وَسَاطَةِ الْوُزَرَاءِ وَالْحُجَّابِ وَالْقُوَّادِ، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا عَمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْوُسَطَاءِ. وَمَا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِ بِجَعْلِهِمْ هَذَا دِينًا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ. فَهَذَا تَذْيِيلٌ لِلْجَوَابِ مُبَيِّنٌ لِمَا فِي هَذَا الشِّرْكِ مِنْ إِهَانَةِ مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَتَشْبِيهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِعَبِيدِهِ مِنَ الْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ الْعَاجِزِينَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (تُشْرِكُونَ) بِتَاءِ الْخِطَابِ، عَلَى أَنَّهُ تَتِمَّةٌ لِلْجَوَابِ. وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَتَيْنِ تَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَنْ شِرْكِ الْجَمِيعِ مِنْ غَائِبٍ مَحْكِيٍّ عَنْهُ وَحَاضِرٍ مُخَاطَبٍ.
وَفِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَنَّ شُئُونَ الرَّبِّ وَسَائِرَ مَا فِي عَالَمِ الْغَيْبِ تَوْقِيفِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِخَبَرِ الْوَحْيِ، وَمِنْهُ اتِّخَاذُ الْوُسَطَاءِ عِنْدَ اللهِ مِمَّا ذُكِرَ وَأَنَّهُ عَيْنُ الشِّرْكِ. وَلَكِنَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ مَنْ يُثْبِتُونَ هَذِهِ الْوَسَاطَةَ بِالرَّأْيِ. وَيُحَرِّفُونَ مَا يَنْقُضُهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا كَأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُبِيحُونَ دُعَاءَ الْمَوْتَى وَاسْتِغَاثَتَهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ. وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِيهِمْ، وَبِأَنَّ الْإِفْرِنْجَ أَثْبَتُوا وُجُودَ الْأَرْوَاحِ وَعَلَاقَتَهَا بِالنَّاسِ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَهُمْ أَقَلُّهُمْ، لَمْ يَقُولُوا إِنَّهَا تَنْفَعُهُمْ وَتَضُرُّهُمْ، أَوْ تَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ لَهُمْ، وَلَوْ قَالُوا هَذَا لَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ قَوْلَهُمْ حُجَّةً نُعَارِضُ بِهَا نُصُوصَ دِينِنَا أَوْ نَتَأَوَّلُهَا لِتُوَافِقِهَا،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute