للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اللهِ تَعَالَى مِنْ بَعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي الْجُزْءَيْنِ ٧ و٨ مِنْ تَفْسِيرِنَا هَذَا فَيُرَاجَعْ، ثُمَّ أَجْمَلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) (٢١: ٦) ثُمَّ أَجَابَ عَنْهَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ لَمَ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) (٢٩: ٥١) ؟

لَكِنَّهُ كَانَ قَدْ فَصَّلَ مُقْتَرَحَاتِهِمْ مَعَ الرَّدِّ عَلَيْهَا فِي السُّوَرِ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا (٢٥: ٧ و٨) ؟ ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧) أَنَّهُمْ طَالَبُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَاحِدَةٍ مِنْ بِضْعِ آيَاتٍ وَعَلَّقُوا إِيمَانَهُمْ عَلَى إِجَابَةِ طَلَبِهِمْ، فَقَالَ بَعْدَ بَيَانِ عَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَمَا صَرَّفَهُ فِيهِ لِلنَّاسِ مِنْ جَمِيعِ ضُرُوبِ الْأَمْثَالِ: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) (١٧: ٩٠) إِلَخْ. الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ، ثُمَّ لَقَّنَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا) (١٧: ٩٣ و٩٥) أَيْ سَبِّحْ رَبَّكَ فِي جَوَابِهِمْ، تَسْبِيحَ التَّعَجُّبِ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَذَكِّرْهُمْ بِأَنَّكَ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَلَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتُوا بِالْآيَاتِ الْخَارِقَةِ لِسُنَنِ الْكَوْنِ، وَأَنَّ آفَتَهُمْ هِيَ آفَةُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ لَمْ يَعْقِلُوا مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْهُدَى، وَأَنَّهُ مَتَى تَبَيَّنَ وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ اتِّبَاعُهُ لِذَاتِهِ، فَاحْتَقَرُوا الرُّسُلَ الَّذِينَ جَاءُوهُمْ بِهِ لِأَنَّهُمْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَاقْتَرَحُوا أَنْ تَجِيئَهُمْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ فِيهَا كَالْبَشَرِ يُمْكِنُهُمُ التَّلَقِّي عَنْهُمْ لَنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ إِذَا نَزَّلَ الْمَلَكَ فَهُوَ لَا يَنْزِلُ إِلَّا بِالْعَذَابِ، إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ بَشَرًا، وَإِذًا لَاحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ مِثْلُهُمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ حِكَايَةً لِخِطَابِهِمْ لِلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ: (مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ

إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ) (١٥: ٧ و٨) وَقَالَ فِي الْأَنْعَامِ: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (٦: ٨ و٩) .

وَلَقَّنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (بَنِي إِسْرَائِيلَ) حُجَّةً أُخْرَى فِي حِكْمَةِ عَدَمِ نُزُولِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَيْهِ أَوْ سَبَبَهُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) (١٧: ٥٩) أَيْ وَمَا صَرَفَنَا عَنْ إِرْسَالِ الْآيَاتِ اللَّاتِي اقْتَرَحَتْهَا قُرَيْشٌ، إِلَّا تَكْذِيبُ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ هُمْ أَمْثَالُهُمْ فِي الطَّبْعِ وَالْعَادَةِ كَعَادٍ وَثَمُودَ، وَأَنَّهَا لَوْ أُرْسِلَتْ لَكَذَّبُوا بِهَا تَكْذِيبَ أُولَئِكَ وَاسْتَوْجَبُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>