أَعْمَالِ النَّاسِ وَكَتْبِهَا لِلْحِسَابِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ. وَكِتَابَةُ الْمَكْرِ عِبَارَةٌ عَنْ كِتَابَةِ مُتَعَلِّقِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَ هُوَ الْبَاعِثَ عَلَيْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تُكْتَبَ نِيَّتُهَا وَهِيَ الْمَعْنَى
الْمَصْدَرِيُّ لِلْمَكْرِ.
وَالْجُمْلَةُ تَتِمَّةُ الْجَوَابِ الَّذِي لَقَّنَهُ اللهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُبَلِّغُهُ عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ بِلَفْظِهِ الْمُوحَى إِلَيْهِ لَا بِمَعْنَاهُ، وَلِذَلِكَ يَدْخُلُ فِي التَّبْلِيغِ لَفْظُ " قُلْ " وَهُوَ خِطَابُ اللهِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَقُولِهِ الْخَاصِّ بِهِمْ كَقَوْلِهِ: (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) (١٠٩: ١) وَأَمْثَالُهُ الْكَثِيرَةُ فِي الْقُرْآنِ، بَلْ أَقُولُ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَّغَهُمُ الْآيَةَ بِرُمَّتِهَا: مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَمَا أَمَرَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ كُلِّهَا لَا وَحْدَهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي أَمْثَالِهِ.
فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادَ أَنْ يَقُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ كَلِمَةَ: ((اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا)) مِنْ قَبْلِ نَفْسِهِ؛ فَيَسْتَشْكِلَ الِالْتِفَاتُ فِيهَا عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي: (إِنَّ رُسُلَنَا) بَلْ هُوَ جَارٍ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِيهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي تَصْوِيرِ تَسْخِيرِ اللهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ فِي كِتَابَةِ الْأَعْمَالِ مِنَ التَّعْبِيرِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ ((إِنَّ رُسُلَهُ يَكْتُبُونَ)) إِلَخْ؛ لِأَنَّ فِي ضَمِيرَ الْجَمْعِ مِنْ تَصْوِيرِ الْعَظْمَةِ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ الْعَظِيمِ، وَالنِّظَامِ الدَّقِيقِ، مَا يَشْعُرُ بِهِ كُلُّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ سَيِّدَةِ اللُّغَاتِ، الَّتِي اعْتَرَفَ عُلَمَاءُ اللُّغَاتِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بِأَنَّهَا تَفُوقُ جَمِيعَ لُغَاتِهِمْ، فِي التَّعْبِيرِ عَنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَكَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ. وَمِثْلُ هَذَا الِالْتِفَاتِ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْكَهْفِ: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) (١٨: ١٠٩) وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ (يَمْكُرُونَ) بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَفَائِدَتُهُ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ ذَلِكَ شَامِلٌ لِلْغَائِبِينَ كَالْحَاضِرِينَ.
وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي كِتَابَةِ الْمَلَائِكَةِ الْحَفَظَةِ لِأَعْمَالِ النَّاسِ وَحِكْمَتِهَا فِي تَفْسِيرِ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً (٦: ٦١) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَشَرَحْنَا قَبْلَهَا مَسْأَلَةَ كِتَابَةِ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ كُلِّهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) (٦: ٥٩) مِنْهَا فَيُرَاجِعُ الْمَوْضُوعُ كُلُّهُ فِي جُزْءِ التَّفْسِيرِ السَّابِعِ مَنْ شَاءَ، وَمَنِ اكْتَفَى بِالْإِجْمَالِ فَحَسْبُهُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ الْأَعْمَالَ كِتَابَةً غَيْبِيَّةً لَمْ يُكَلِّفْنَا اللهُ تَعَالَى مَعْرِفَةَ صِفَتِهَا، وَإِنَّمَا كَلَّفَنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ لَهُ نِظَامًا حَكِيمًا فِي إِحْصَائِهَا؛ لِأَجْلِ مُرَاقَبَتِنَا لَهُ فِيهَا؛ لِنَلْتَزِمَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَالْخَيْرَ وَنَجْتَنِبَ أَضْدَادَهَا.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ: (أَسْرَعُ) فِيهَا عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْفِعْلِ الثُّلَاثِيِّ: سَرُعَ كَضَخُمَ وَحَسُنَ سَرْعًا وَسُرْعَةً فَهُوَ سَرِعٌ وَسَرِيعٌ وَسَرَاعٌ وَالْمُسْتَعْمَلُ بِكَثْرَةٍ الرُّبَاعِيُّ أَسْرَعَ، وَفِي اللِّسَانِ أَنْ سِيبَوَيْهِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: أَسْرَعَ طَلَبُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَتَكَلُّفُهُ كَأَنَّهُ أَسْرَعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute