(وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقَ الَّذِي سَبَقَهُ مِنَ الْوَحْيِ لِرُسُلِ اللهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَالِ كَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى صَلَّى الله عَلَيْهِمْ بِدَعْوَتِهِ إِلَى أُصُولِ دِينِ اللهِ الْإِسْلَامِ، الَّتِي دَعَوْا إِلَيْهَا مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، بَعْدَ أَنْ نَسِيَ بَعْضُ ذَلِكَ بَقَايَا أَتْبَاعِهِمْ وَضَلُّوا عَنْ بَعْضٍ، وَشَوَّهُوهُ بِالتَّقَالِيدِ الْمُبْتَدَعَةِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ مُحَمَّدٌ الْأُمِّيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ تَصْدِيقَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ جَاءَ وَفَاقًا لِمَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ حَرَمِ اللهِ، وَلِمَا بَشَّرَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) (٧: ١٥٧) مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ التَّاسِعِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ.
(وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ) الْإِلَهِيِّ أَيْ جِنْسِهِ، وَهُوَ مَا شَرَّعَهُ اللهُ تَعَالَى لِيَكْتُبَ وَيَهْتَدِيَ بِهِ جَمِيعُ الْبَشَرِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالشَّرَائِعِ وَالْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَسُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ (لَا رَيْبَ فِيهِ) هُوَ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَيْ لَيْسَ فِيهِ مَثَارٌ لِلشَّكِّ وَلَا مَوْضِعٌ لِلرَّيْبِ ; لِأَنَّهُ الْحَقُّ وَالْهُدَى مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ وَحْيِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (٤: ٨٢) .
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) انْتِقَالٌ مِنْ بَيَانِ كَوْنِهِ أَجَلَّ وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يُفْتَرَى لِعَجْزِ الْخَلْقِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، إِلَى حِكَايَةِ زَعْمِ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ وَالْمُعَانِدِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتَرَاهُ،
وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ، أَوِ التَّمْهِيدِ بِهِ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ بِتَحَدِّي التَّعْجِيزِ، وَهُوَ: (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) فِي أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ وَتَأْثِيرِهِ وَهِدَايَتِهِ وَعِلْمِهِ، مُفْتَرَاةٍ فِي مَوْضُوعِهَا، لَا تَلْتَزِمُونَ أَنْ تَكُونَ حَقًّا فِي أَخْبَارِهَا، (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) وَاطْلُبُوا لِلْمُظَاهَرَةِ لَكُمْ وَالْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دُعَاءَهُمْ مَنْ دُونِ اللهِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ يَعْجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ مِثْلَكُمْ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (١٧: ٨٨) وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَقَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ يُونُسَ (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فِي زَعْمِكُمْ أَنِّي افْتَرَيْتُهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ سُورَةٍ هُنَا يَصْدُقُ بِالْقَصِيرَةِ كَالطَّوِيلَةِ، وَبَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ٢٣) وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ تَنْكِيرِ السُّورَةِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّعْظِيمِ، أَوْ لِنَوْعٍ مِنَ السُّورِ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ كَالسُّوَرِ الَّتِي فِيهَا قَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْبَارُ وَعِيدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ تَتَعَلَّقُ تُهْمَتُهُ بِالْإِخْبَارِ لَا بِالْإِنْشَاءِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ السُّورَةُ الطَّوِيلَةُ، أَيْ مِثْلُ هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا (يُونُسَ) فِي اشْتِمَالِهَا عَلَى أُصُولِ الدِّينِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، كَمَا يُطْلَقُ لَفْظُ الْكِتَابِ أَوْ كِتَابٍ أَحْيَانًا وَيُرَادُ بِهِ السُّورَةُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute