تَدَلُّ الْأَسَالِيبُ الصَّحِيحَةُ، وَالِاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِيُّ الصُّرَاحُ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ ضَرْبٌ
مِنَ الْخُضُوعِ بَالِغٌ حَدَّ النِّهَايَةِ، نَاشِئٌ عَنِ اسْتِشْعَارِ الْقَلْبِ عَظَمَةً لِلْمَعْبُودِ لَا يَعْرِفُ مَنْشَأَهَا، وَاعْتِقَادِهِ بِسُلْطَةٍ لَهُ لَا يُدْرِكُ كُنْهَهَا وَمَاهِيَتَهَا. وَقُصَارَى مَا يَعْرِفُهُ مِنْهَا أَنَّهَا مُحِيطَةٌ بِهِ، وَلَكِنَّهَا فَوْقَ إِدْرَاكِهِ، فَمَنْ يَنْتَهِي إِلَى أَقْصَى الذُّلِّ لِمَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ عَبَدَهُ وَإِنْ قَبَّلَ مَوْطِئَ أَقْدَامِهِ، مَا دَامَ سَبَبُ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ مَعْرُوفًا وَهُوَ الْخَوْفُ مِنْ ظُلْمِهِ الْمَعْهُودِ، أَوِ الرَّجَاءُ بِكَرَمِهِ الْمَحْدُودِ، اللهُمَّ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمُلْكَ قُوَّةٌ غَيْبِيَّةٌ سَمَاوِيَّةٌ أُفِيضَتْ عَلَى الْمُلُوكِ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَاخْتَارَتْهُمْ لِلِاسْتِعْلَاءِ عَلَى سَائِرِ أَهْلِ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ أَطْيَبُ النَّاسِ عُنْصُرًا، وَأَكْرَمُهُمْ جَوْهَرًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ انْتَهَى بِهِمْ هَذَا الِاعْتِقَادُ إِلَى الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ، فَاتَّخَذُوا الْمُلُوكَ آلِهَةً وَأَرْبَابًا وَعَبَدُوهُمْ عِبَادَةً حَقِيقِيَّةً.
لِلْعِبَادَةِ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ شُرِعَتْ لِتَذْكِيرِ الْإِنْسَانِ بِذَلِكَ الشُّعُورِ بِالسُّلْطَانِ الْإِلَهِيِّ الْأَعْلَى الَّذِي هُوَ رُوحُ الْعِبَادَةِ وَسِرُّهَا، وَلِكُلِّ عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الصَّحِيحَةِ أَثَرٌ فِي تَقْوِيمِ أَخْلَاقِ الْقَائِمِ بِهَا وَتَهْذِيبِ نَفْسِهِ، وَالْأَثَرُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ ذَلِكَ الرُّوحِ، وَالشُّعُورِ الَّذِي قُلْنَا إِنَّهُ مَنْشَأُ التَّعْظِيمِ وَالْخُضُوعِ، فَإِذَا وُجِدَتْ صُورَةُ الْعِبَادَةِ خَالِيَةً مِنْ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً، كَمَا أَنَّ صُورَةَ الْإِنْسَانِ وَتِمْثَالَهُ لَيْسَ إِنْسَانًا.
خُذْ إِلَيْكَ عِبَادَةَ الصَّلَاةِ مَثَلًا، وَانْظُرْ كَيْفَ أَمَرَ اللهُ بِإِقَامَتِهَا دُونَ مُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِهَا، وَإِقَامَةُ الشَّيْءِ: هِيَ الْإِتْيَانُ بِهِ مُقَوَّمًا كَامِلًا يَصْدُرُ عَنْ عِلَّتِهِ وَتَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُهُ. وَآثَارُ الصَّلَاةِ وَنَتَائِجُهَا هِيَ مَا أَنْبَأَنَا اللهُ تَعَالَى بِهَا بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٢٩: ٤٥) وَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٧٠: ١٩ - ٢٢) وَقَدْ تَوَعَّدَ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالْأَلْفَاظِ مَعَ السَّهْوِ عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَسِرِّهَا فِيهَا الْمُؤَدِّي إِلَى غَايَتِهَا بِقَوْلِهِ: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (١٠٧: ٤ - ٧) فَسَمَّاهُمْ مُصَلِّينَ، لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِصُورَةِ الصَّلَاةِ، وَوَصَفَهُمْ بِالسَّهْوِ عَنِ الصَّلَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي هِيَ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى الْمُذَكِّرُ بِخَشْيَتِهِ، وَالْمُشْعِرُ لِلْقُلُوبِ
بِعِظَمِ سُلْطَانِهِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَثَرِ هَذَا السَّهْوِ وَهُوَ الرِّيَاءُ وَمَنْعُ الْمَاعُونِ. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ الرِّيَاءَ ضَرْبَانِ: رِيَاءُ النِّفَاقِ وَهُوَ الْعَمَلُ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ، وَرِيَاءُ الْعَادَةِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِحُكْمِهَا مِنْ غَيْرِ مُلَاحِظَةِ مَعْنَى الْعَمَلِ وَسِرِّهِ وَفَائِدَتِهِ، وَلَا مُلَاحَظَةِ مَنْ يَعْمَلُ لَهُ وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، فَإِنَّ صَلَاةَ أَحَدِهِمْ فِي طَوْرِ الرُّشْدِ وَالْعَقْلِ هِيَ عَيْنُ مَا كَانَ يُحَاكِي بِهِ أَبَاهُ فِي طَوْرِ الطُّفُولِيَّةِ عِنْدَمَا يَرَاهُ يُصَلِّي - يَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ وَلَا عَقْلٍ، وَلَيْسَ لِلَّهِ شَيْءٌ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّ " مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا " وَأَنَّهَا تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute