للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي مِثْلِهَا بِأَنَّ مَنْ بَلَغَهُ حَدِيثٌ مِنْهَا

بِطَرِيقٍ يَعْتَقِدُ بِهِ ثُبُوتَهُ عَمِلَ بِهِ، وَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى أَحَدٍ وَلَوْ مُنْقَطِعًا لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ جَمِيعِ مَا رُوِيَ مِنْ هَذِهِ الْآحَادِ وَيَعْمَلَ بِهَا، كَيْفَ وَالصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ لَمْ يَكْتُبُوا الْحَدِيثَ وَلَمْ يَتَصَدَّوْا لِجَمْعِهِ وَتَلْقِينِهِ لِلنَّاسِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ نَهَى عَنْ كِتَابَتِهِ، وَمَنْ حَدَّثَ فَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ مَا يَعْلَمُ إِذَا عَرَضَ لَهُ سَبَبٌ مَعَ الْمُخَاطَبِينَ، فَمِثْلُ هَذِهِ الْفُرُوعِ يُعْذَرُ الْعَامِّيُّ بِجَهْلِهَا بِالْأَوْلَى، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّحَرِّي فِي قَبُولِ مَا يَبْلُغُهُ مِنْهَا، فَلَا يَقْبَلُ رِوَايَةَ كُلِّ أَحَدٍ وَلَا يُسَلِّمُ بِكُلِّ مَا فِي الْكُتُبِ لِكَثْرَةِ الْمَوْضُوعَاتِ وَالضِّعَافِ فِيهَا، وَلَا مَشَقَّةَ وَلَا حَرَجَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْتِزَامِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إِلَّا إِذَا كَانُوا يُرِيدُونَ تَرْكَ دِينِهِمْ بِرُمَّتِهِ اكْتِفَاءً بِبَعْضِ الْعَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَكَادُ يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ تَمْيِيزُ السُّنَّةِ فِيهَا مِنَ الْبِدْعَةِ تَقْلِيدًا لِآبَائِهِمْ وَمُعَاشِرِيهِمْ.

فَتَبَيَّنَ مِمَّا شَرَحْنَاهُ أَنْ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي التَّقْلِيدِ الْمَحْضِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْمُقَلِّدِينَ، فَهُمُ اتَّخَذُوا مُقَلِّدِيهِمْ أَنْدَادًا وَسَيَتَبَرَّأُ الْمَتْبُوعُ مِنَ التَّابِعِ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ، وَتَتَقَطَّعُ بِهِمُ الْأَسْبَابُ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ) هُوَ تَشْبِيهُ حَالَةٍ بِحَالَةٍ ذُكِرَتْ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ ; أَيْ: كَذَلِكَ النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ إِرَاءَتِهِمُ الْعَذَابَ سَيُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ، وَالَّذِينَ تَنَطَّعُوا فِي إِعْرَابِهَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ صَرَفَتْهُمْ قَوَاعِدُ النَّحْوِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا، عَلَى أَنَّ لَهُ نَظَائِرَ فِي كَلَامِ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ هِيَ مِمَّا بَقِيَ لَهُمْ مِنَ الْأَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ لَمْ تُفْسِدْهَا الْعُجْمَةُ ; إِذْ لَا تَمَجُّهَا أَذْوَاقُ الْأَعْجَمِينَ.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَاءَتْ فِيهِ الْبَاءُ لِمَعْنًى خَاصٍّ لَا يَظْهَرُ فِيمَا ذَكَرُوهُ هُنَا مِنْ مَعَانِيهَا، وَإِنَّمَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبِيُّ مِنَ الْأُسْلُوبِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ هُنَا كَمَا قَالَ (الْجَلَالُ) : تَقَطَّعَتْ عَنْهُمُ الْأَسْبَابُ لَا تَرَى فِي نَفْسِكَ الْأَثَرَ الَّذِي تَرَاهُ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْعِبَارَةِ الْأُولَى الَّتِي تُمَثِّلُ لَكَ التَّابِعِينَ وَالْمَتْبُوعِينَ كَعِقْدٍ انْفَرَطَ بِانْقِطَاعِ سِلْكِهِ فَذَهَبَتْ كُلُّ حَبَّةٍ مِنْهُ فِي نَاحِيَةٍ.

أَقُولُ: وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ قَدْ كَانُوا مُرْتَبِطِينَ فِي الدُّنْيَا وَمُتَّصِلًا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ يَسْتَمِدُّهَا كُلٌّ مِنَ التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ مِنَ

الْآخَرِ، فَشُبِّهَتْ هَذِهِ الْمَنَافِعُ الَّتِي حَمَلَتِ الرُّؤَسَاءَ عَلَى قَوْدِ الْمَرْءُوسِينَ، وَالتَّابِعِينَ عَلَى تَقْلِيدِ الْمَتْبُوعِينَ بِالْأَسْبَابِ: وَهِيَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْحِبَالُ ; كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ مَرْبُوطًا مَعَ الْآخَرِينَ بِحِبَالٍ كَثِيرَةٍ فَلَمْ يَشْعُرُوا إِلَّا وَقَدْ تَقَطَّعَتْ هَذِهِ الْحِبَالُ كُلُّهَا فَأَصْبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مَنْبُوذًا

<<  <  ج: ص:  >  >>