للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَقْلُ الشَّيْءِ: مَعْرِفَتُهُ بِدَلَائِلِهِ وَفَهْمُهُ بِأَسْبَابِهِ وَنَتَائِجِهِ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الْبَاحِثُونَ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي الدَّلَائِلِ بِقَصْدٍ صَحِيحٍ وَلَوْ فِي غَيْرِ الْحَقِّ ; لِأَنَّ الْبَاحِثَ الْمُسْتَدِلَّ إِذَا أَخْطَأَ يَوْمًا فِي طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ فِي مَوْضُوعِ الْبَحْثِ فَقَدْ يُصِيبُ فِي يَوْمٍ آخَرَ، لِأَنَّ عَقْلَهُ يَتَعَوَّدُ الْفِكْرَ الصَّحِيحَ، وَاسْتِفَادَةَ الْمَطَالِبِ مِنَ الدَّلَائِلِ، وَأَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الْمُقَلِّدُونَ الَّذِينَ لَا يَبْحَثُونَ وَلَا يَسْتَدِلُّونَ، لِأَنَّهُمْ قَطَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الْعِلْمِ وَسَجَّلُوا عَلَى عُقُولِهِمُ الْحِرْمَانَ مِنَ الْفَهْمِ، فَهُمْ لَا يُوصَفُونَ بِإِصَابَةٍ ; لِأَنَّ الْمُصِيبَ هُوَ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَالْمُقَلِّدُ إِنَّمَا يَعْرِفُ أَنَّ فُلَانًا يَقُولُ إِنْ هَذَا هُوَ الْحَقُّ فَهُوَ عَارِفٌ بِالْقَوْلِ فَقَطْ ; وَلِذَلِكَ ضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَمَا سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةَ بِعَدَمِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ.

(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَمْنَعُ اتِّبَاعَ غَيْرِ مَنْ يَعْقِلُ الْحَقَّ وَيَهْتَدِي إِلَى حُسْنِ الْعَمَلِ وَالصَّوَابِ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنْ تَقْلِيدِ الْعَاقِلِ الْمُهْتَدِي. (نَقُولُ) : وَمِنْ أَيْنَ يَعْرِفُ الْمُقَلِّدُ أَنَّ مَتْبُوعَهُ يَعْقِلُ وَيَهْتَدِي إِذَا هُوَ لَمْ يَقِفْ عَلَى دَلِيلِهِ؟ فَإِنْ هُوَ اتَّبَعَهُ فِي طَرِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَا وَصَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَنْعِي عَلَيْهِ هَذَا، إِذْ هُوَ اسْتِفَادَةٌ لِلْعِلْمِ مَحْمُودَةٌ لَا تَقْلِيدَ فِي الْمَعْلُومِ أَوِ الْمَظْنُونِ لِغَيْرِهِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: رَأَيْتُ لِبَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ شَخْصًا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَسَمِعَ قَوْلَهُ وَاقْتَدَى بِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي نُبُوَّتِهِ يُؤَدِّي إِلَى الْوُصُولِ إِلَى اعْتِقَادِ صِحَّتِهَا بِالدَّلِيلِ لَعُدَّ مُقَلِّدًا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى بَصِيرَةٍ كَمَا أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَكُونَ (وَأَقُولُ) إِنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ

مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (١٢: ١٠٨) وَقَدْ فَسَّرُوا الْبَصِيرَةَ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ بِنُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّظَرُ الِاسْتِدْلَالِيُّ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ ; بَلْ يَكْفِي فِيهَا اطْمِئْنَانُ النَّفْسِ لِصِدْقِهِ بِمَعْرِفَةِ حَالِهِ وَحُسْنِ مَا دَعَا إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ مَرْتَبَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ وَإِثْبَاتِ دِينِهِ بِالْحُجَّةِ لَا يَرْتَقِي إِلَيْهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

هَذَا وَإِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا) بَحْثًا، فَقَدْ يُشْكِلُ هَذَا الْعُمُومُ فِيهِ عَلَى بَعْضِ الْأَفْهَامِ، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ.

(أَحَدُهَا) : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهِ، بَلْ يَكْتَفُونَ فِيهِ كُلِّهِ بِالتَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا بَحْثٍ وَهُوَ مَا مَرَّ.

(وَثَانِيهَا) : أَنَّهُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْبُلَغَاءِ فِي الْمُبَالَغَةِ بِجَعْلِ الْغَالِبِ أَمْرًا كُلِّيًّا عَامًّا. يَقُولُونَ فِي الضَّالِّ فِي عَامَّةِ شُئُونِهِ: إِنَّهُ لَا يَعْقِلُ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدِي إِلَى الصَّوَابِ. وَيَقُولُونَ فِي الْبَلِيدِ إِنَّهُ لَا يَفْهَمُ شَيْئًا، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَعْقِلَ الْأَوَّلُ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ وَيَفْهَمَ الثَّانِي بَعْضَ الْمَسَائِلِ.

(وَثَالِثُهَا) : أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنَ الْعِبَارَةِ نَفْيَ الْعَقْلِ عَنْ آبَائِهِمْ بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهَا: أَيَتَّبِعُونَ آبَاءَهُمْ لِذَوَاتِهِمْ كَيْفَمَا كَانَ حَالُهُمْ حَتَّى لَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ؟ كَأَنَّهُ يَقُولُ

<<  <  ج: ص:  >  >>