وَلَا مَا دُونَهُمَا مِنْ مَظَاهِرِ الْعِبَادَةِ ; إِذْ لَا رَبَّ لَكُمْ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْعِبَادَةُ لِرَبِّ الْعِبَادِ دُونَ غَيْرِهِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بِمَا فِي الْآيَاتِ ٣ - ٦ مِنَ الْآيَاتِ (الدَّلَائِلِ) الْكَوْنِيَّةِ.
ثُمَّ عَادَ إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ الْخَاصَّةُ فِي الْآيَةِ: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (١٨) وَدَحَضَ هَذَا الْقَوْلَ مُنَزِّهًا نَفْسَهُ عَنْ هَذَا الشِّرْكِ.
ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ هَذَا بِمَا فِي الْآيَتَيْنِ ٢٢ و٢٣ مِنْ ضَرْبِ مَثَلٍ لَهُمْ يَعْرِفُونَهُ بِالتَّجْرِبَةِ ; لِوُقُوعِهِ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ وَعَصَفَتْ بِهِمُ الرِّيحُ، وَهَاجَ بِهِمُ الْبَحْرُ وَأَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ، يَدْعُونَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَيَنْسَوْنَ عِنْدَ شِدَّةِ الْخَطَرِ مَا كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ.
ثُمَّ عَادَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْآيَاتِ ٣١ - ٣٦ وَإِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ فِي الْآيَةِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (٤٩) .
ثُمَّ عَادَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي سِيَاقٍ آخَرَ فَبَيَّنَ فِي الْآيَةِ ٥٥ أَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَتَّبِعُونَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ إِذْ لَا شُرَكَاءَ لَهُ، مَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَالْخَرَصَ.
ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْآيَتَيْنِ ٧١ و٨٥ أَنَّ كَمَالَ التَّوْحِيدِ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ.
وَمِنْ شُئُونِ الرَّبِّ وَحَقِّهِ عَلَى عِبَادِهِ التَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي الْآيَةِ ١٥ وَالْآيَةِ ١٠٩ أَنَّ الرَّسُولَ مُتَّبِعٌ لِمَا يُوحَى إِلَيْهِ عَمَلًا وَتَبْلِيغًا، لَا مُشَرِّعٌ مُسْتَقِلٌّ فِيهِ وَلَا مُتَحَوِّلٌ عَنْهُ.
وَفِي الْآيَتَيْنِ ٥٩ و٦٠ أَنَّ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّزْقِ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ حَقٌّ أَنْ يُحَرِّمَهُ عَلَيْهِمْ لِذَاتِهِ تَحْرِيمًا دِينِيًّا. وَأَنَّ مَنْ تَحَكَّمَ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فَهُوَ مُعْتَدٍ عَلَى حَقِّهِ تَعَالَى مُفْتَرٍ عَلَيْهِ.
(الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي صِفَاتِ الذَّاتِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْعِزَّةِ وَالرَّحْمَةِ)
أَمَّا الْعِلْمُ فَحَسْبُكَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) (٦١) إِلَخْ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا وَتَأَمَّلْ عَجَائِبَ بَلَاغَتِهَا، وَإِحَاطَتَهَا بِعَظَائِمِ الْأُمُورِ وَصَغَائِرِهَا، وَظَوَاهِرِ الْأَعْمَالِ وَخَفَايَاهَا، وَذَرَّاتِ الْوُجُودِ قَرِيبِهَا وَبَعِيدِهَا جَلِيِّهَا وَخَفِيِّهَا، وَمَا تُدْرِكُهُ الْمَشَاعِرُ وَمَا لَا تُدْرِكُهُ مِنْ خَلَايَا مَرْكَبَاتِهَا وَدَقَائِقِ بَسَائِطِهَا. وَتَدَبَّرْ تَعَلُّقَ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِهَا كُلِّهَا، وَكِتَابَتَهُ لَهَا مِنْ قَبْلِ إِيجَادِهَا، وَشُهُودَهُ إِيَّاكَ فِي كُلِّ مَا تَكُونُ فِيهِ مِنْهَا، تَجِدْهُ رَافِعًا لَكَ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ.