للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(١) افْتَتَحَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى كِتَابِهِ الْحَكِيمِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهَا، وَثَنَّى فِي الَّتِي تَلِيهَا بِالْإِنْكَارِ عَلَى النَّاسِ عَجَبَهُمْ مِنْ وَحْيِهِ إِلَى بَشَرٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لَهُمْ نَذِيرًا وَبَشِيرًا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ دَلَائِلَ هَذَا الْوَحْيِ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَتَفْنِيدَ شُبُهَاتِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ وَحْيٌ فَاضَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَعَقْلِهِ الْبَاطِنِ عَلَى لِسَانِهِ بِإِسْهَابٍ وَإِطْنَابٍ، فَكَانَ ذَلِكَ مُصَنَّفًا مُسْتَقِلًّا مُسْتَنْبَطًا مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ وَعُلُومِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْعَالَمِ، فَنُشِيرُ إِلَى مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهُ بِالْإِيجَازِ.

(٢) فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْهَا اقْتِرَاحُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ أَوْ أَنْ يُبَدِّلَهُ، وَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَهُمْ بِهِ مِنْ عَجْزِهِ عَنْ تَبْدِيلِهِ أَوِ الْإِتْيَانِ بِغَيْرِهِ، وَكَوْنِهِ لَا يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ فِيهِ إِلَّا اتِّبَاعَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ (وَمِثْلُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ) .

(٣ و٤) فِي الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَلَّغَهُمْ هَذَا الْقُرْآنَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ، فَلَوْ شَاءَ تَعَالَى أَلَّا يَتْلُوَهُ عَلَيْهِمْ لَمَا تَلَاهُ، وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى أَلَّا يُدْرِيَهُمْ وَلَا يُعْلِمَهُمْ بِهِ لَمَا أَدْرَاهُمْ: فَهُوَ الَّذِي أَقْرَأَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٩٦: ١) وَ (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى) (٨٧: ٦) وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ وَجَعَلَهُ مُعَلِّمًا (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (٤: ١١٣) وَ (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (٤٢: ٥٢) إِلَخْ.

(٥) أَنَّهُ أَيَّدَ هَذَا بِالْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ لَبِثَ فِيهِمْ عُمُرًا طَوِيلًا مِنْ قَبْلِهِ، وَهُوَ سِنُّ الْإِدْرَاكِ وَالصِّبَا فَالشَّبَابِ حَتَّى بَلَغَ أُشَدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَا يَقْرَأُ وَلَا يُقْرِئُ، وَلَا يَتَعَلَّمُ وَلَا يُعَلِّمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا (أَيِ الْآيَةِ ١٦) أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ حُكَمَاءِ التَّارِيخِ بِالتَّجَارِبِ وَالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ جَمِيعَ مَعَارِفِ الْبَشَرِ الْكَسْبِيَّةِ وَاسْتِعْدَادَهُمْ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، إِنَّمَا يَظْهَرَانِ وَيَبْلُغَانِ أَوْجَ قُوَّتِهِمَا مِنَ النَّشْأَةِ الْأُولَى إِلَى مُنْتَصَفِ الْعُشْرِ الثَّالِثِ مِنَ الْعُمُرِ، وَلَا يَكُونُ بَعْدَهُ إِلَّا التَّمْحِيصُ وَالتَّكْمِيلُ وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عِلْمٌ وَلَا بَيَانٌ وَلَا عَمَلٌ إِصْلَاحِيٌّ عَامٌّ دِينِيٌّ أَوْ دُنْيَوِيٌّ إِلَّا بِهَذَا الْوَحْيِ الَّذِي فُوجِئَ بِهِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأَرْبَعِينَ،

وَيَلِيهَا فِي الْآيَةِ ١٧ أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ ظُلْمًا لِنَفْسِهِ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا بِآيَاتِ اللهِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ لَا يُفْلِحُونَ، فَهَلْ يَرْتَكِبُ هَذَا الظُّلْمَ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا؟ وَلِمَاذَا يَرْتَكِبُهُ وَقَدْ عَرَفَ قُبْحَهُ كَبِيرًا، بَعْدَ أَنْ نَشَأَ عَلَى الْتِزَامِ الصِّدْقِ صَغِيرًا، وَاشْتُهِرَ بِهِ وَبِالْوَفَاءِ عِنْدَ الْمُعَاشِرِينَ، حَتَّى لَقَّبُوهُ بِالْأَمِينِ؟ .

(٦) فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالثَّلَاثِينَ حِكَايَةٌ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)

وَأَمْرُهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ بِتَحَدِّيهِمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَدَعْوَةِ مَنِ اسْتَطَاعُوا مِنْ دُونِ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>